الثلاثاء، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٦

الفقير ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الفقيــــــــر

قصة محمود البدوى

هبطت الطائرة فى مطار " كاى تاك " بمدينة هونج كونج والصبح يتنفس وكان المطار مزدحما للغاية بالركاب ، لأن الطائرات جميعها تتوقف فى الليل وتعمل بالنهار بسبب وجود الجبال .

وخرجت منشرح الصدر نشطا لحسن الاستقبال الذى لقيته فى كل مكان .. فى الجوازات والاجراءات الصحية حتى نسيت مرض القلب .

واستقبلنى على الباب حشد من فتيان الفنادق ومكاتب السياحة والمحلات يوزعون البطاقات على القادمين . وتناولت كل ما تقدم لى منها ووضعته فى جيبى .

ورأيت قبل أن أخرج إلى المدينة أن أجلس أولا فى الكافتريا " ملهى المطار " واختار من هذه البطاقات الفندق الذى سأنزل فيه .

وكان المقهى مزدحما بالمسافرين والقادمين كالعادة فى مثل هذه الساعة من الصباح ، ويصبح من المألوف أن يشاركك مسافر فى مائدتك الصغيرة يحتسى القهوة أو الشاى ، وينهض سريعا ليلحق بطائرته أو يخرج إلى المدينة .

واخترت مائدة قريبة من الباب وبجانبى حقيبة اليد الصغيرة ، وحقيبة الملابس الوحيدة ، وطلبت قهوة وفطيرة وأخذت اتطلع إلى البطاقات ، ورأيت أن أصرف النظر هذه المرة عن فنادق " كولون " لأنى نزلت فيها فى مرات سابقة ، وأن أغير المنظر والمكان وأختار فندقا فى هونج كونج ذاتها لأستريح من حركة الانتقال بالباخرة كل صباح من كولون إلى هونج كونج ، ولأعيش فى قلب المدينة العجيبة بكل مشاعرى ، واكتشف أسرارها ما استطعت فى مدى الأيام القليلة التى سأمكثها .

واخترت الفندق بالفعل من بطاقة من هذه البطاقات بعد تمعن فى الاسم والسعر المحدد للغرفة وكان فى شارع " دى فو ".

ولما رفعت رأسى عن البطاقة الفيت " الكافتريا " قد امتلأت عن آخرها ، وأصبح يجلس بجانبى وحولى أناس من كل الأجناس ومعهم حقائبهم مثلى موضوعة على الأرض بجانب الموائد ، ومنهم من انشغل بكتابة البطاقات التذكارية ، أو وقف يصور منظر الطبيعة من الشرفة الخارجية حيثما تدور .

****

وخرجت من الكافتريا ممسكا كل حقيبة بيد ، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها على المدينة والجو نديا لطيفا والصيف كله يتقلص وكنا فى نهاية أيامه .

ووجدت فى الطريق تاكسيا من التى تستعمل لنفر واحد ، فاستوقفته وقلت للسائق قبل أن أركب ..

ـ ليس معى دولارات هونج كونجى وسأعطيك دولارا أمريكيا واحدا لتوصلنى إلى مرسى الباخرة .

وكنت أعرف المسافة وأقدرها ..

فرد السائق فى لطف :

ـ تفضل .. والدولار الأمريكى يكفى وأكثر مما سيحصيه العداد .

وركبت وكان يسير فى سرعة .. والمدينة أخذت تتنفس وتتحرك بكل مرافقها والمارة يسرعون إلى عملهم فى خفة عجيبة .. وسألته فى موقف الإشارات بعد أن شاهدت صورة لمسز تاتشر فى صحيفة جنوب الصين .

ـ المسز تاتشر هنا ..؟
ـ كانت هنا .. وسافرت .. رجعت إلى بلادها ..

قال هذا دون أن يلتفت إلى ناحيتى

ـ وسترجعون إلى الصين الأم بعد 15 سنة ؟
ـ فى هذا الخير .. ومن الصينى الذى يرضى بالاستعمار ؟
ـ ألا تخاف من تغير النظام ؟
ـ المهم أن تبقى لى عربتى هذه ، وعندما يكون الحكم عادلا وفى صرامة وحزم ، فإنه يرضى كل إنسان .

وابتسم وتلفت وبدت سنته الذهبية تلمع من خلال أسنانه الصفراء من فعل التبغ .

وكان فى بداية الشيخوخة ولكنه ما زال قويا حاد البصر متمالكا لأعصابه وجسمه ، وهو جالس لا يدل جسمه على طول ولا سمنة .

وقلت فى نفسى وهو يشق طريقه فى قلب " كولون " وعيناى إلى العمارات والمتاجر وحركة الناس فى الطريق .

ستظل هونج كونج هى هونج كونج سواء انضمت إلى الصين الأم أم ظلت مسلوخة عنها ، لقد أخذت طابع المدينة الفريدة .. إن أناسها أصبحوا من تكوين آخر وطينة أخرى .. حب المنافسة ، وفى ظهرهم اليابان بكل ثقلها فى الصناعة وتقدم العلم والحركة السريعة والنظام الدقيق جعلهم فى وضع آخر .. ثم حرية الانطلاق خلقت منهم جبابرة فى هذه الميناء ، أنظر إلى البضائع ، أنظر إلى الصناعات الصغيرة التى فى طريقها إلى التطور السريع لتصبح ثقيلة كما تصنع اليابان .. أنظر إلى حركة الناس فى الشوارع ، ولهفتهم على العمل وتقليد الأشياء أولا ثم اختراع الجديد .

هذا كله مبهج ومريح للقلب .. ونسيت تعبى ..

وسألنى السائق :
ـ اخترت الفندق ..؟
ـ نعم ..

وبلغنا كوبرى الباخرة وأخرجت له الدولار ، وشكرنى وتحرك بسيارته . ثم وجدته يتوقف وينادى بالإنجليزية ، ونزل من سيارته وقدم نحوى سريعا قبل أن أهبط من الكوبرى إلى الباخرة .

وقال وهو يلهث :
ـ هل هذا دولار ؟
ـ نعم ..
ـ انه عشرة دولارات ، فحاذر إن الدولار من حجم العشرة فى العملة الأمريكية ، فحاذر من هذا الخطأ وإلا سيفرغ جيبك فى يوم واحد !!

ونظرت إلى الرجل الفقير فى اكبار .. إنسان لا تربطنى به معرفة ولا صلة ، أكثر من صلة راكب غريب بسائق سيارة أجرة ، رجل فقير ..يخاف أن ينضم موطنه إلى الصين فتؤخذ منه عربته الصغيرة المهالكة التى يعيش منها وتصبح من عربات الدولة .

رجل يفعل هذا ، وفى حيطان الميناء وفى الكوبرى وفى البواخر وفى المحطات ، لافتات تحذر من النشالين ، لافتات فى كل مكان بحروف بارزة كبيرة بالإنجليزية .

إن كل ما يحرص عليه هذا السائق هو كيانه الصغير وأسرته ، إن كانت له أسرة ، لو كان هذا الرجل طامعا فى المال لطوى الورقة كما يطويها غيره من لصوص المال ، ومن الذين لايتورعون فى سبيل الحصول على المال من فعل كل شىء وارتكاب كل ذنب من السرقة والقتل والنهب والخداع واستضعاف الضعيف وزيف الحقائق والتمويه على الناس .

كم أذل المال قوما كانوا كبارا فى نظر الناس وشامخين فطوى صفحتهم فى لحظات ، ومرغهم فى الوحل ، وطمس رؤوسهم فى التراب .

ودارت كل هذه الخواطر فى رأسى والباخرة تتحرك إلى هونج كونج وصورة الرجل الفقير مرفوعة فوق رأسى .. وبجانبها اللافتات بالخط العريض .. حذار من النشالين .

هل هو تمويه من الإستعمار الإنجليزى .. لتشويه وجه المواطن الصينى فى هونج كونج أم هو حقيقه ؟ الواقع أنه حقيقه إلى حد ما ، ففى هونج كونج رقيق أبيض ودعارة ، ونشالون لا يشق لهم غبار ، وأصحاب حيل لا نظير لمثلهم فى العالم .

ولكن فى هونج كونج بجانب الصينيين ، غرباء استوطنوا فيها من كل الأجناس فى الأرض .. من الإنجليز والأمريكان والهنود ثم قوم من اليمن والباكستان وغرب أوربا وشرقها .

فلا مانع من التحذير من النشالين الخفاف والثقال عند كل تجمع وحشد ، لا مانع أبدا ، وذلك أول واجبات البوليس فى المدينة .

****

وخرجت من الميناء إلى الفندق فى عربة ركشا واخترت غرفة فى الطابق الخامس .

ولم يستغرق الانتقال من المطار إلى الفندق إلا القليل من الوقت ، ولهذا لم أشعر بأى تعب فى القلب ، ولشوقى إلى المدينة قررت النـزول اليها بعد أن احلق ذقنى وآخذ حماما سريعا .

وتناولت حقيبة اليد لأخرج منها أشياء صغيرة كأدوات الحلاقة وزجاجة الكولونيا .

ولما فتحت الحقيبة حدقت فيها مشدوها وجدت أنها ليست حقيبتى ، وبها أشياء قليلة لا تخصنى ولا تمت لى بأية صلة ولا شىء فيها يدل على صاحبها .

وكان حجم الحقيبة وطولها وعرضها ولونها مثل حقيبتى تماما .. وهى ليست من حقائب اليد التى توزعها شركات الطيران على مسافريها وعليها اسمها كإعلان ، لا إنها ليست من هذا الصنف من الحقائب .. وإنما هى حقيبة يد من التى تباع فى كل الأسواق الأوربية بنية غامقة بقفل واحد يفتح ويغلق اتوماتيكيا بضغط خفيف من جانب .

وكنت قد اشتريت واحدة من هذا الصنف وأصبحت احملها فى كل رحلة لأنها سهلة الاستعمال وخفيفة ، ولا يسع باطنها إلا أقل الأشياء ..

وبمجرد علمى أن الحقيبة ليست حقيبتى اعترتنى رجفة .. وازدادت الرجفة إلى هلع زلزل أعصابى .. وأوجع قلبى ، ولما وجدت فى الحقيبة كيسا جلديا محشوا بالدولارات .. وكل انسان يفرح لمنظر الدولارات وهو فى رحلة .. ولكن منظرها أفزعنى .. وجعلنى ارتعش .. وأخرجتها من الكيس وكانت ضخمة كبيرة وظاهرة للعيان .. ولم يشأ صاحبها أن يخفيها بأية وسيلة من وسائل الاخفاء وحيله .. كأن يطويها فى الأوراق أو يضعها فى محفظة كبيرة مع أشياء أخرى ، لم يفعل هذا .. بل تركها ظاهرة بمجرد أول نظرة ولمسه ..

كانت صورة لنكولن تسر الناظر .. الفلاح العصامى المتفرد فى الطباع والقريب جدا ، والذى يحمل صفات أعظم رجالنا .. بعد النبى .. عمر ابن الخطاب .. والقياس مع الفارق ..فعمر كان أعظم لاعتبارات كثيرة .. ولكن فى العدل والنظام وصرامة الحكم وبساطة العيش ، والاغتيال من يدى أفاقين اشتركا ، واشتركا بما يذهل أمام التاريخ ، لنكولن الفلاح العصامى محرر العبيد برزت صورته فى نفسى كما برزت فى الدولارات الأمريكية ولم تبرز بعده صورة ، ولكنى كمصرى استرجعت صورة " أيزنهاور " الذى أعطى لليهود فى اسرائيل لطمة قاسية بعد عدوان 1956 ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .

***

نظرت إلى الدولارات طويلا ولم افكر فى عدها ثم أعدتها إلى مكانها من الكيس الجلدى وذهنى يشتغل بسرعة ، ولكن يجب علىّ ألا أتصرف بغباء وتهور ، فهذه الدولارات مطمع للكثيرين فيجب أن أتحقق أولا بعد كل خطوة وأتحقق بحذر وتأن لأنها أمانة وضعها القدر فى عنقى .

حقيبة اليد هذه حملها عامل المصعد فى الفندق مع حقيبتى الأخرى كما حملتها أنا من الكافتريا فى المطار إلى التاكسى ثم إلى الباخرة ، فهل أخطأ عامل المصعد وحمل حقيبة نازل من نـزلاء الفندق بدل حقيبتى لتصادف وجود حقائب كثيرة فى الفندق وأنا داخل ..؟

أم أن الخطأ من جانبى فى الكافتريا ، فقد حملت حقيبة مسافر آخر بدل حقيبتى وأنا لا أدرى لما بين الحقيبتين من تشابه كبير وتطابق تام فى اللون والحجم .

إن كان الخطأ قد حدث فى الفندق .. فسيكون السؤال من جانبهم وسيأتى العامل ويتدارك الخطأ ، أما أنا فلا أحدثهم بشىء ، لأنى لم أختبر الفندق بعد ولا أعرف مقدار ما هم فيه من أمانة .

ولما لم يسألنى أحد .. تناولت الحقيبة بيدى .. ونزلت إلى بهو الفندق .. وتحادثت مع الشاب العامل فى الاستقبال وأنا أقول لنفسى إن كان هناك خطأ فسيذكره منظر الحقيبة فى يدى بكل أمر ..

ولكنه لم يحدثنى عن شىء متعلق بالحقيبة ، ولما عرف أنى خارج للتسوق ، دلنى على متجرين فى شارع " جلوستر رود " وأدركت بعد هذا أن الخطأ حدث فى الكافتريا .. فأسرعت اليها .. وفى ذهنى خاطر أن الذى حمل حقيبتى لابد أنه أدرك الخطأ مثلى ورجع إلى الكافتريا كما رجعت .

***

وفى الكافتريا دخلت وأنا أظهر الحقيبة لكل العيون وجلست إلى نفس المنضدة ، وطلبت زجاجة عصير ، وكانت الحقيبة بجانبى فرأيت أن أضعها على المنضدة لتظهر أكثر ويراها الجرسون إن كان قد سأله أحد عنها من قبل.

وطال جلوسى ، ولم يأت أحد ، ولم يسألنى شخص ، ورأيت أن من حسن التصرف والصواب ألا أتقدم وأكشف الأمـر فمن الذى يرفض أخذ دولارات هبطت عليه من السماء .

ولما يئست وأحسست بالتعب ووجع القلب ، تغير شعورى من الحرص عليها ، إلى تركها للمقادير لأنها عذبتنى ، ورأيت أن أنهض وأترك الحقيبة فى مكانها ، وتسللت إلى الخارج بعد أن تركتها على المنضدة .

ولكنى قبل أن أركب التاكسى وجدت جرسون الكافتريا يسرع ورائى وبيده الحقيبة .

وشكرته وأنا فى حالة غيظ ، ولكنى ناولته دولارا هونج كونجى لأمانته .

***

وعدت إلى مدينة هونج كونج ، والمدينة العجيبة قد فتحت كل أبوابها ، شوارعها الطويلة الضيقة تموج بالناس .. من كل الأجناس .. ذاهبين وراجعين ومتطلعين إلى اللافتات الكبيرة والصغيرة التى تغطى كل الحوانيت بالأحرف الكبيرة البارزة وباللغة الصينبة فى الأعم والإنجليزية فى القليل .. حروف ضخمة تسد عليك الطريق والعيون زائغة من كثرة البضائع المعروضة ورخص أثمانها وتنوع أشكالها .. إن كل صناعات الدنيا تصب هنا بجانب صناعتهم .. إنهم لا يضعون قيودا على شىء يصنعه أى إنسان .

كان الترام من الطابقين يتحرك أمامى فى الشارع كما كانت عربة الركشا .. وكانت السيارات .. ولكنى لم أركب أيا منها ومشيت على رجلى شبه حالم ، ونسيت تعبى ، ونسيت حقيبة اليد بيدى اليمنى ، نسيتها وأنا أغوص فى قلب المدينة حتى وصلت إلى المطاعم الصغيرة فى صف واحد التى تبيع الكرشة التى يسبح فيها لحم البقر !!

واشتاقت نفسى إلى أكلة صينية ! وإلى الذهاب الى سوق الخضار الكبير الذى يفرغ من كل ما فيه فى الليل ، ويغسل أرضه وسمائه بالماء المغلى والصابون ويعقم ويطهر !!

وإلى الذهاب إلى حديقة النمر وركوب عربة الركشا والتنـزه فى الغابة وإلى التوجه إلى الميناء ومشاهدة السفن العملاقة وهى تفرغ شحناتها من البضائع وحولها الرافعات تدور وتجلجل .

كما اشتاقت نفسى إلى دخول السينما فى حفلات النهار بعد أن شاهدت فى الشارع صور جارى كوبر وجون واين ولى ملفن العباقرة وعلى رأسهم كوبر الذين ذهبوا ولم يخلفهم أحد .

كما تقت إلى التجول فى أرجاء المحلات الكبيرة التى اشتهرت بها هونج كونج وإلى دخول المكتبات واستعراض صفوف الكتب .

وتذكرت أن من المحتم علىّ أن افعل كل هذا قبل سفرى فى نهاية الأسبوع إلى بكين ، ويجب أن أسير على جدول ينظم أيامى المقبلة وقبل كل شىء أن أرجع الآن حقيبة اليد إلى الفندق .

***

وتركت الحقيبة فى الفندق وخرجت أتجول فى المدينة ، زرت كل الأمكنة التى أحبها .

وتغديت وبعد الغداء نمت أكثر من ساعة لأريح أعصابى وقلبى .. وخرجت فى الليل إلى المدينة التى تتلألأ بكل الأنوار .. الأنوار البنفسجية والفسفورية وألوان الزمرد والياقوت ، وبريق اللؤلؤ وشعاع الماس .

كل شىء يتحرك فى أمواج وأمواج .

ودخلت حى " منشاى " حى الملاهى والمسارح ، وسرت فيه بكل طوله وعرضه .

وفجأة برزت أمامى لافتة ضخمة عن عراف من العرافين ، وكانت اللافتة بحروف كبيرة وعليها رسومات ، بلورة كبيرة تكشف الغيب !! ومضيئة بالأنوار القوية وتشير إلى مدخل ضيق يفضى إلى صاحبها .

ودخلت فى ضرب لا نهاية لطوله ، على جوانبه الحوانيت الصغيرة التى تبيع اللؤلؤ .. وتماثيل الخزف والنحاس لبوذا .. والعقود وقناديل الزيت والصور والرسوم لكبار الرسامين والمصورين ، والقداحات .. والأقلام .. والمحابر .. وعقود الماس ، شاهدت كل هذا وأنا أتحرك فى بطء وهلع إلى العراف وكان بابه فى نهاية الدرب .. وعلى الباب حصيرة من عقود الخزف والزجاج تتموج بالكهرباء ، ولا حس ولا صوت .

وحركت الحصيرة ودخلت ، وطالعنى ما يشبه الجب ووجه رجل سمين ضليع حاد النظرات ، تربع على حشية حمراء قامت على كرسى مضلع من الأبنوس المطعم بأصداف البحر ، ولا سند له ، وأمامه بلورة كبيرة مستطيلة مستقيمة الزوايا كشاشة التليفزيون تتلون بكل الوان قوس قزح ولكنها ثابتة.

وعن يساره شىء لم أشاهده وأنا داخل لقلة الضوء وتعمد خفوته ليضفى جو الرهبة على المكان ، ويتكامل الموقف ، عن يساره فتاة جميلة فى عمر الزهور من أنضر وأجمل وجوه الصينيات ، بضمة وشرطة فى العين ، وارتخــاء فى الجفن وبسمة على الشفاة تذيب القلوب الصلدة .

لعلها سكرتيرته أو مترجمته فهو لايتحدث إلا الصينية عن عمد أو تظاهر.

وقلت للفتاة بالإنجليزية عن غرضى من الزيارة .. ولكن على صورة أخرى .. قلت لها إن حقيبة يدى سرقت فى صباح اليوم وأريد أن أعرف السارق والمكان الذى سرقت فيه .

قالت برقة :

_ـ عشرون دولارا .. واسترح كما أنت ..

فأخرجت عشرين دولارا هونج كونجى .. وجلست على كرسى أمام المرآة كما أشارت لى وقلبى ينبض .. وكل جوارحى تنتفض .. فقد خيل إلى أن كل شىء يدور فى الجب مع انقطاع النور وتسلط العتمة ..

وسمعت صوت العراف الأجش يقول ما يشبه التعاويذ بالصينية ، ويترنم بنغم كرنين الأجراس .. ثم خفت وانقطع صوته .. وخيم سكون الموت ..

وسمعـــت صـوت الفتاة .. فتنبهت وأخذت أنظر إلى المرآة ..

وظهرت الكافتريا فى المطار .. ومن كان فيها من المسافرين كما رأيتهم فى الصباح .. ظهروا فى حجم صغير ولكن ملامحهم وسحنهم واضحة .. وظهرت مائدتى ومن كان حولى ..

ثم ظهر شخص طويل ببدلة كحلية ، كان جالسا إلى جانبى ومعه سيدة وطفل .. ونهض وتناول حقيبتى .. بدل حقيبته وأسرع إلى الباب .

وصرخت .. وأضيئت الأنوار .. وسمعت ضحكة الفتاة وسألتنى :
ـ لا ترع .. هل عرفته ؟
ـ وكيف أعرف .. والرجل كسمكة فى بحر ..؟
ـ ولكنه من ركاب طائرتك ..
ـ أبدا ما أحسبه منهم ..
ـ ستعرفه .. وتهتدى اليه .. إذا أبلغت البوليس بأوصافه كما شاهدتها ..
ـ هذا ظنك ..؟
ـ أجل ..!

وكان العراف يحدق فى وجهى وعلى فمه ابتسامة .. ودهاء .. لقد انتصر.. وكشف الأسرار .

لكنى كنت فى حالة ذهول .. هل هى لعبة شيطانية .. والرجل فى إمكانه عرض صورة للمطار وهو يعرف أنى كنت على سفر .. ولكن الحركة هناك .. ونفس سحنة الشخص المجاور لمائدتى هذا كله أذهلنى .. ولم أستطع تحمل الصدمة وأنا أحمل علة القلب .. وأخذنى ما يشبه الدوار وظللت فى مكانى وأدركت الفتاة حالى عندما رأت العرق يتفصد من جبهتى .

وتناولت الفتاة ذراعى ، وأراحتنى على حشية فى غرفة مجاورة ..

ورأيت أن من قلة الذوق أن أشغل المكان .. فتحاملت على نفسى وهبطت إلى الشارع .. وأنوار المدينة تتلألأ .. وتحاشيت الجموع ما أمكن .

وفى شارع " كونات رود " وجدت ملهى فدخلته وطلبت زجاجة من الأستاوت .. وأراحتنى بعض الشىء ، وجاءت فتاة وجلست بجانبى فعاملتها بلطف .. وأدركت هى عدم رغبتى فى مجالستها فنهضت ، وتركتنى وحدى .

وكانت الموسيقى الصينية هادئة تريح النفس والأعصاب .. والأنوار خافتة .. وشاهدت رقصات صينية جميلة .. وبعد الرقص جاءت العاب بهلوانية ، فغادرت الملهى إلى الفندق وأنا أشعر بالتعب وألم القلب ..!!

وسقطت وأنا أخرج من المصعد فى الجناح الذى به غرفتى .

ولما فتحت عينى وجدت نفسى على سريرى وبجانبى سيدة .. وأنا أعرف أن الصينيين بطبعهم الشرقى لا يشغلون الفتيات بالليل فى الفنادق .

وكان الطبيب الذى جاءوا به بعد سقوطى لا يزال فى الغرفة ، وحيانى بلطف وقال :

ـ لاتشغل نفسك ، أزمة خفيفة ومرت بسلام والفضل لصاحب الفندق الذى استدعانى على الفور .. ولهذه السيدة الكريمة جارتك .. التى كانت أول من شاهدك فى لحظة الإعياء .

وأشار إلى سيدة تقف بجانبه وكانت هى التى رأيتها على باب المصعد ، وحسبتها من فتيات الفندق .

وشكرتها بعينى وأنا صامت .. وحدثتها عن أجر الطبيب ورغبتى فى سداده .

فقالت برقة :
ـ الأجر سيضاف إلى حسابك فى الفندق .. وهناك ممرضة ستأتى بعد ساعة ، وتعطيك حقنة ، والأحسن أن تظل صاحيا ..!!

فقلت فى نفسى إن من يتطلع إلى جمال وجهك سيظل صاحيا إلى آخر عمره .. خشية ألا تشرب روحه من هذا الجمال .

وحدثتنى أنها فى الغرفة المجاورة لغرفتى ، وجاءت قبلى بيوم واحد لتقضى فى هونج كونج بضعة أيام بعد بانكوك .. ونيودلهى .. وأنها سويدية وتشتغل مدرسة فى لندن منذ أربع سنوات .. وكانت متـزوجة ولها بنت فى الثامنة عشرة من عمرها ، تزورها من وقت لآخر فى السويد ، والبنت فى رعاية جدها .

حدثتنى عن كل هذا بسرعة وبصراحة الأوربية من الشمال كأنى أعرفها من سنين .

ـ وقلت لها :

بنت فى الثامنة عشرة .. وأنت فى العشرين ، أليس هذا بغريب ؟‍‍‍ ‍

فضحكت بقلب طروب .. ونغمت :‍‍‍‍
ـ هل أنا صغيرة هكذا .. حقا ؟
ـ أجل .. ولا أحد يمكن أن يعطيك أكثر من هذه السن ..

وكان وجهها الأبيض الجميل البديع القسمات يضىء ، وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق الزمرد ، وكنت فى حالة من المرض لاتجعلنى أزيد من إطرائى ..

وجاءت لى بكل علاجات القلب التى كتبها الطبيب .. وتحركت وراحت وجاءت فى خفة بنت العشرين حقا .

ولما علمت أننى مصرى واسمى " فتحى " قالت لى أنها التقت بشاب مصرى اسمه " فتحى " وهى تدرس فى جامعة اكسفورد ، وكان يمكن أن تتزوجه .. ويتغير مسار حياتها .. لولا أن وضع القدر فى طريقها هذا الشاب المجرى الذى تزوجته بعد رحلة فى الدانوب .. وخلفت منه البنت الوحيدة .. ثم انفصلا.. ومن وقتها وهى سائحة فى كل الأجازات .

كانت ترتدى بدلة الرحلات .. بنطلونا بنيا وبلوزة صوفية داكنة وتركت شعرها المقصوص على طبيعته .. وكانت أسنانها فى بياض العاج .. لولا أثر السيجارة التى أطفأتها وهى فى حجرتى حتى لا تؤذينى ..‍‍

وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل زجاجة وهى باسمة .. وقالت :
ـ ستشرب معى ..
ـ آسف ممنوع..
ـ بحكم الدين ..؟

فأشرت إلى قلبى ..

فقالت بنغمة حبيبة :
ـ إنى أحاول أن أنسيك هذا وليس فى عينيك مرض لقلبك .. والعين لا تكذب ..
ـ ولكنى أحس به ..
ـ إنسه ..

وتناولت يدى ..
ـ إن نبضك عادى جدا ..
ـ طبيبة ..؟
ـ كنت أود إن أكون طبيبة ، وكان والدى وقتها يعمل فى لندن .. ولكن جرفتنى حرفة اللغة ، فدرست اللغات الشرقية وتخصصت ..

فقلت لها :
هذا أحسن والخير فيما جرى ..

وحدثتها عن سفرى إلى بكين ومحاضراتى فى قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين عن الحريرى والهمزانى كأعظم قاصين فى تراثنا العربى ..ولم يكن الإسمان غريبين عليها..

وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل نسخة قديمة نادرة الطبع من الف ليلة وليلة بالإنجليزبة .

فقلبت فيها معجبا .. وحدثتها عن كل ما أعرفه عن الف ليلة وليلة .. ومن استفاد منها من كتاب الغرب .. استفاد منها بوكاشيو وكتب الديكاميرون .. ثم مارجريت نافار التى كتبت الهيتاميرون .. كما استفاد منها جيته .. ولامارتين فى اسفارهما .. كل هؤلاء استفادوا من كتابنا العرب .. ولكن لقصورنا وتخلفنا أغفلنا أمجادنا .

والعربى منذ القدم وحتى العصر الجاهلى قبل الإسلام ، كان يقص ويحكى أجمل القصص وأبدع الحكايات فى رحلاته من مكان إلى مكان .. فهو أول من قص بالسليقة روائع القصص .

كما أن بديع الزمان الهمزانى أول من كتب قصة فنية قصيرة متكاملة العناصر الفنية كما يقول أساتذة الأدب وهذا ما سأتحدث عنه فى محاضرتى فى بكين .

ولاحظت هى أن حديثى عن أمجادنا من الكتاب العرب أراحتنى فحدثتنى عن كل ما عرفته منهم فى دراستها ، وعن عمقهم الفكرى وعبقريتهم .

وقلت لها :
ـ لقد كنت السبب فى سهرك وتعبك .. وأنت فى رحلة للترويح عن النفس .. ولا أدرى كيف أشكرك .. وأنا مسافر بعد أيام ، وقد لا نتقابل ولا أجد مجالا ولا فسحة للشكر ..

وحدثتها عن العراف ..

فقالت :
ـ ما الذى دعاك للذهاب اليه .. إنهم حمقى وكاذبون ..
ـ ولكنه كان ذكيا .. وبارعا ..

وحدثتها بحقيقة المسألة ..

فقالت فى تعجب :
ـ هذا غريب .. وأين الحقيبة ..
ـ إنها معى .. وهاهى ذى ..

فقلت لها مازحا :

ـ فكرت فى شىء يريحنى ..
ـ ما هو ..!
ـ نتقاسم هذه الدولارات ..

فتمايلت ورقص قلبها من كثرة الضحك ..
ـ إنها تخصك وحدك .. رزق ساقه الله اليك ..
ـ إنها لا تخصنى .. إنها تخص صاحبها .. إننى من نسل قوم كان الحاكم منهم يطفىء سراج الدولة إذا تحدث فى شئونه الخاصة ..
ـ من ..!
ـ إنه عمر بن عبد العزيز ..
ـ ولكن الدنيا تغيرت .. وتغير معها الناس ..
ـ الأمانة لا تتغير مع الزمن لأنها شىء باق .. وشرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور ..
ـ نعم ما دام الخير موجودا فالدنيا باقية .. وبالخير نقاوم كل عناصر الشر مهما كانت ضراوتها ..

وسمعت نقرا على الباب .. فقالت بدماثة :

ـ جاءت الممرضة لتعطيك الحقنة .. وسأتركك لحظات ..

وغادرت " كرستين " الغرفة والممرضة داخلة وكانت صينية فى الثلاثين من عمرها .. قصيرة ونحيفة سريعة الحركة .. وجهها الصبوح يبتسم فى وداعة ..

وغرزت الحقنة سريعا .. وطوت علبتها ، فقلت لها وقد سرنى أنها تتقن عملها :
ـ انتظرى لحظة .. أرجوك ..

فاستغربت ، وظلت واقفة .. وأخرجت لها ورقة بمائة دولار هونج كونجى من جيبى لها .

ففتحت عينها فى ذهول .. وسألت :
ـ ما هذا ..؟
ـ دولارات هونج كونجى .. أعطيها لك منحة منى ..
ـ مقابل ماذا آخذها .. إننى لم أمنحك شيئا بالمقابل .. فكيف آخذها..؟

كانت جادة فى كلامها كالسياط .. الهبتنى تماما ..

فقلت أخفف الوضع .. وأصرف عنها ما فكرت فيه ..
ـ لقد أعطيتنى حقنة الشفاء ..

فلانت ملامحها وهى تستدير لتواجهنى :
ـ الحقنة .. أخذت ثمنها من الفندق ..

ونظرت اليهــــا صامتا وهى خارجة من الغرفة ولم أعقب ..

ودخلت " كرستين " وحدثتها بما جرى .. فضحكت .. وقالت بنغمة لها معناها :
ـ هكذا الفقير .. والناس لا تعرفه ..

وقلت لها وأنا أشير إلى الحقيبة التى كانت السبب فى عذابى وتطور وجع القلب ..
ـ وما الذى سنفعله الآن بعد كل هذا ..؟
ـ سننشر عنها سطرين فى جريدة جنوب الصين وسيأتى صاحبها حتما بعد النشر ..
ـ وكيف أنتظر .. وأنا مسافر إلى بكين ..؟
ـ سترسل برقية إلى الجامعة .. وتؤجل المحاضرة إلى أيام أخرى ..

وكان فى كلامها الصواب .. وأمسكت بيدها لأشكرها .. وشعرت بالراحة .. وخف العذاب والدوران .. وإن كنت أعرف أن الأرض ستظل تدور بعنف بمن عليها ولا تحفل بمن يسقط من جوانبها ..
‍‍‍‍‍‍ ‍ ‍‍
============================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 24و3111983 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من هونج كونج
لمحمود البدوى عام2001من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================




الفارس ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


الفارس
قصة محمود البدوى

قضى مراد ستة أيام فى هونج كونج يتجول فى شوارعها ويشاهد كل ما فيها من عجائب ..

وفكر فى أن يرى " أبردين " أيضًا قبل سفره ويشاهد هؤلاء الصينيين الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء ، ويتغذى بأكلة السمك الشهية على ظهر السفينة العائمة المشهورة بأطباقها ..

وجلس وحده بعد الغداء على ظهر السفينة يرقب كل ما حوله فى استغراب .. وكانت الشمس ترسل آخر أشعتها الصفراء على الماء .. والزوارق تتأرجح من الموج فى صفوف طويلة منتظمة . وأشرعتها الحمراء منصوبة وقناديلها قد توهجت قبل غروب الشمس ..

وكان المنظر كله يأخذ بلب المشاهد وله طعمه الحلو فى نفسه أكثر من أكلة السمك الشهية فى ساعة الغداء .. فإن كل ما فى الأكلة من طرافة هو اصطياد السمكة .. وهى حية تنتفض وتحاول الفكاك من السنارة .. ثم سحبها سريعًا بحالتها هذه إلى المطبخ وتقديمها بكل ما فيها من حيوية إلى آكلها ..

نسى أكلة السمك ومشهياتها وأخذ يتطلع إلى ما حوله وكانت المنازل القائمة على التل تموج بالغسيل المنشور ..
وهو يرفرف فى بياض ناصع ، ويغطى عينى المشاهد فى دفعة واحدة .. كأنما تحركت بمفتاح آلى ..

وانطلقت ريح الشتاء تهب بعنف فأخذت الزوارق تتراقص وتتلاعب قناديلها مع الموج ..

وكان مراد قد جاء إلى السفينة بزورق تحركه فتاة صينية ورغم أن الصينيات يغلب عليهن قصر القامة .. ولكن هذه كانت طويلة ملساء العود .. وفى فتحة عينيها الجانبية الجمال الصينى الآسر ..

ومع أنها بطيئة الحركة والفتيات الأخريات العاملات فى الزوارق كن يسبقنها فى كل جولة .. ولكن مراد اختارها هى من بينهن جميعًا وانتظرها حتى رست أمامه ..

وقالت له بإنجليزية سليمة بعد أن نقلته إلى السفينة :
ــ متى تعود .. ؟
ــ بعد ساعتين ..
ــ نادنى وسأظل قريبة منك ..
ــ يسرنى هذا ..

وابتعدت وجلس إلى طاولة السفينة وهو يلاحقها بنظره ، كانت تحرك زورقها بالمدراة من الخلف وهى واقفة منتصبة القامة وقد غطت شعرها الأسود الطويل بقبعة كبيرة تقيها المطر والريح .. وغطت صدرها بصدار ضم كل عظمها ولحمها بإحكام .. ولكنه أبرز نهديها واستدارة كتفيها فكأنما كشف الصدار عن المحاسن بدلاً من أن يغطيها ..

وتحت هذا الصدار سروال طويل يصل إلى قدميها مما اعتادت الملاحات لبسه فى هذه الزوارق ..

ولكنهن إذا خرجن من الماء إلى الأرض لبسن الجونلة المفتوحة من الجانبين ككل الصينيات فى هونج كونج .. وأحكمن دثار الصدر ..

ورآها تجلس فى ضباب الغسق وقد تركت الزورق لفعل الموج والريح ..

وبعد أكلة السمك أسف لأنه لم يركب معها على التو ويعود .. ولماذا قال لها بعد ساعتين ولا شىء جديد سيراه وهو جالس وحده وقد خلت السفينة من روادها وتغير الجو فجأة ..

وفى الوقت المحدد جاءت هى ورست تحته قبل أن يشير إليها .. وقفز إلى الزورق .. وكانت قد أعدت له فى المؤخرة مكانًا مريحًا غطته بتندة ليكون بنجوة من الريح ..

وعندما جلس وحركت الزورق رآها بصورة جديدة .. البنطلون الطويل الأزرق والسترة من لونه والصدار الأحمر الضاغط ..!

واتجهت سريعًا إلى الشاطئ والحركة إلى هنا لا تأخذ وقتًا طويلاً ..

قال لها :
ــ أريد أن أخرج إلى البحر الواسع وأرى الخليج .. فبوغتت بهذا الطلب وتجهم وجهها رغم دماثة طباعها ..

وقالت بنبرة استنكار ..
ــ فى هذا الجو ..؟!
ــ أجل أرجوك وأنا لا أجىء إلى هنا كل يوم ..
ــ كما تحب ..

وكانت سحابة من الامتعاض لا تزال على وجهها .. وحولت الزورق إلى الخليج ثم جلست تصنع له الشاى وقدمت له الكوب ساخنًا ..
ــ سيجعلك تشعر بالدفء .
وذاقه وقال :
ــ جميل وفيه سكر أيضًا ..
ــ أجل إننا نشربه بالسكر كالإنجليز هنا ..
ــ ولكن فى الصين الأم لا يشربونه بالسكر ..
ــ هل كنت هناك ..؟
ــ نعم عملت سنتين فى بكين ..
ــ فى التجارة ..؟
ــ فى السفارة ..
ــ هل أنت سفير .. ؟
ــ أقل من ذلك بكثير مجرد موظف صغير ..
ــ لا تقل هذا بل أنت كبير وكبير ..
ــ شكرًا لهذا الإطراء ..

وسألته :
ــ أين ذهب صاحبك .. ؟
ــ لم يكن معى صحاب ..!
ــ ولكنى رأيت جنتلمانًا بصحبتك على ظهر المركب ..
وأدرك أنها كانت تراقبه من عرض البحر ..
ــ إنه سائح وكان يسألنى عن الجو فى نيودلهى فى هذا الفصل من السنة لأنه ينوى الذهاب إلى هناك ..
ــ وأنت ..؟
ــ وأنا ذاهب إلى طوكيو ..
ــ جميلة جميلة ما أسعدك بالعمل فيها ..

واشتدت الريح وتأرجح الزورق .. وسألته :
ــ أتعود ..؟
ــ أبدًا ..

وتراقصت الزوارق القريبة والبعيدة على سطح الماء وأصبح الماء كله أنوارًا تتراقص وتذهب وتجىء تبعًا لحركة الريح ودفعها للزوارق ..
هؤلاء هم الناس الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسألها :
ــ هل ولدت هنا .. ؟
ــ أجل ..
وتركت ما فى يدها وجاءت وجلست بجانبه ..

وقالت :
ــ شاى آخر .. ؟
ــ لا شربت ما فيه الكفاية ..
ــ نبيذ .. ؟
ــ شكرًا ..
ــ لماذا لم تحمل فى يدك معطفًا .. الجو متقلب .. ؟
ــ لم أكن أتصوره سيصل إلى هذه الدرجة من السوء ..

وفجأة ظهر شىء فى المقدمة جعله يفتح عينيه فى عجب .. خرج طفل صغير من بطن الزورق يمسح عينيه .. ونظر مراد إليه طويلاً وفهم ..
ــ طفلك .. ؟
ــ نعم وكان نائمًا وأيقظه الريح ..

وتحركت إليه واحتضنته وقدمت له الشاى ..
فقال لها مراد بابتسامة :
ــ الشاى سيجعله لا ينام ..
ــ وأنا أحبه ساهرًا ..

وابتسمت بتوريه ..
ــ جميل مثل أمه ..
ــ شكرًا ولماذا لا يكون مثل أبيه .. ؟
ــ لم أر والده بعد ..
ــ ولن تراه ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سافر بعيدًا بعيدًا ..

وفتح الطفل عينيه وأخذ ينظر إلى الغريب بفضول ثم بغضب ..
فقالت الفتاة تخاطب طفلها بالإنجليزية :
ــ والآن أيها الفارس أنت فى مبارزة مع الغريب .. مع هذا الجنتلمان .. وأيكما يفوز فى المبارزة سيظفر بالأنثى ..

وضحك مراد وقال لها برقة :
ــ لا داعى للمبارزة وأنا منهزم ومنسحب من أول جولة ..
ــ ولماذا هكذا دون صراع .. ؟ أنا أحب أن تتبارزا .. !
ــ واحتضنت طفلها وترقرقت فى عينيها الدموع ..

وقالت فى حزن :
ــ كلما فكرت أن أعيش لحظات لنفسى أجده صاحيًا ..

ونكس مراد رأسه وقال بصوت فيه بعض ما فى نفسها من مرارة :
ــ تلك ضريبة الأم .. وأين تذهبين منها ويكفيك فخرًا أنك مطوقة بها ..

وكان يود أن يقول لها إنه أكثر منها لوعة وعذابًا ولكنه أمسك .. ورأت فى وجهه الشىء الذى لا تحب أن تراه فى وجه المسافر .. المسافر الذى سافر ليتمتع بمباهج الحياة وينسى متاعبها فى الدنيا الجديدة ..

وسألته لتغير من تسلسل خواطره :
ــ ما الذى كان يريده منك هذا الرجل على الساحل ولماذا ثار غضبك .. ؟
ــ لقد طالعنى بصف من الأسنان الذهبية وعرض علىَّ أن أركب الركشا .. فقلت له إننى لا أركب عربة يجرها إنسان .. وكرر الطلب فأثارنى ..
ــ ولكنك مخطئ ، ففى داخل العربة ستجد حسناء منتظرة وتسليك فى الطريق .. !
ــ حقًا ..؟! لو علمت هذا لركبت على الفور .. !
وضحكا ..

وأحسا بالمطر يهطل بغزارة فتركا سطح الزورق وجلسا متجاورين تحت التندة بعد أن غطت طفلها ولكنه ظل مفتوح العينين يلاحظ الغريب بفضول ..

وجاءت الفتاة بدثار من الصوف وطوقت به مراد وقالت :
ــ إن هذا بدل المعطف ..
ــ هذا كرم منك لم أعهد مثله ، ولا أدرى كيف أشكرك ..

واشتد المطر واكفهر الجو فغطت الزورق كله بالمشمع السميك وجلسا يرقبان الليل ..

وسألته وهى تعطيه كوبًا آخر من الشاى ..
ــ أين تقيم ..؟
ــ فى الجولون جات ..
ــ إنها ممتلئة بالجنود الأمريكيين .. وكيف تعيش مع صخبهم .. ؟ إنهم يسكرون ويسكرون وشبح حرب فيتنام يطاردهم .. فهم دومًا فى رعب وصخب ورغم مضى سنوات طويلة على انتهاء الحرب ولكن الشبح يعود بكل ما فيه من رعب ..
ــ فى قولك الحق . ولكنى نزلت من الطائرة إليها مباشرة .. دلنى عليها زميل ولم يكن عندى وقت للاختيار ..

ونظر إليها طويلاً وتردد قبل أن يلقى السؤال ثم ألقاه :
ــ ألا توجد غرفة مفروشة هنا على الساحل فى هذه البيوت .. ؟
وضحكت ..
ــ لماذا تضحكين .. ؟
ــ إن الصين أكثر منكم شرقية ومراعاة التقاليد .. هل تؤجر أنت غرفة فى بيتك لغريب .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ وكذلك الصينى لا يؤجر غرفة من مسكنه قط وإنما يمكن أن تجد هذه الغرفة عند الأجانب الذين يقيمون فى هونج كونج أو كولون ، أما عند الصينيين فلا ..
ــ فهمت .. فهمت ..
ــ وأنذر الجو بالعواصف وحركت هى المدراة من الخلف ..

وسألته :
ــ ألا تفكر فى العودة ..
ــ أبدًا سأقضى الليل هكذا فقد تقطعت بى الأسباب إلى كولون .. الباخرة التى تعبر إلى هناك أحسبها توقفت فى هذه الساعة ..

وتركت المدراة وجلست بجانب طفلها بعد أن غطته ولفته جيدًا ..

وكان المطر لتحركها وفعل الريح قد بلل صدارها .. فقال لها مراد :
ــ إن هذا سيئ ويعرضك لالتهاب الرئة فأخلعيه وألبسى غيره ..
ــ سأفعل هذا ولكن أدر وجهك أولاً والأحسن أن أغطيك ..
وغطته فضحك ..

وبحرص الصينية التى لا تحب أن تكشف صدرها لأحد ، وقد تكشف فخذيها فى الطريق بالجونلة المفتوحة فإنها خلعت الصدار بسرعة ولبست غيره ..

وقالت ضاحكة :
ــ الآن يمكنك أن تنظر ..
ــ أنا لا أرى شيئًا إلا وهج عينيك .. فالظلام تراكب وقد خرجنا إلى عرض البحر وبعدنا عن الزوارق ..
ــ نعم وهذا ما رغبت فيه ..

وسألها :
ــ منذ مدة تعملين فى البحر .. ؟
ــ قبل أن يولد هذا ..
وأشارت إلى طفلها ..
ــ والعمل مربح .. ؟
ــ هذه حرفة الأجداد منذ مئات السنين فلا يحسن القيام بها سوانا فى طول الأرض وعرضها .. انظر أين نحن الآن من الشاطئ ومن الموج والمطر والريح ولو كان فى هذا المكان ملاح غير صينى لابتلعك الموج من أول غمزة فى مثل هذا الزورق الصغير .. ولكنها حرفتنا وفننا ..

وشعر بها تزهو على البحر والموج والريح والعواصف .. شعر بها فوق كل تقلبات الجو وتقلبات السحاب كجنية فى يدها خاتم السحر .. فلا شىء يروعها ولا شىء يفزعها ..

ولا يدرى لماذا فكر فى هذه اللحظة فى النقود التى سيعطيها لها مقابل كل هذا التعب وتحسس الدولارات الهونج كونجية ..
وقال لنفسه : إن لم تكن كفاية سيعطيها جنيهات إنجليزية فلا يغمط حقها أبدًا ..

* * *

ورآها فجأة متجهمة تنظر إلى موقع من البحر وقد علا وجهها الرعب ، ونظر حيث تنظر فلم ير غير سواد الفحم وزبد البحر قد تحول إلى مداد ودوامات تلف وتدور .. وظلت هى على حالها من الفزع الأخرس ..

فتناول يدها وقال لها بعطف :
ــ اجلسى لقد تعبت وسنخرج وحدنا من هذه الدوامة سيخرجنا الموج ..
ــ إن الدوامة لا تخيفنى وقد اعتدت عليها وعلى الخروج منها ، ولكننى تذكرت فى هذا الموقع شيئًا حسبتنى نسيته لمر الأيام والأعوام ولكننى أدركت الآن أن هذا توهم .. فالذى حدث سيظل محفورًا فى أعماق نفوسنا مهما مرت عليه الأيام ومهما حاولنا أن نطمسه أو نداريه أو نلف حوله ونغطيه ..

ونظرت إلى الطفل وأحكمت غطاءه وشربت جرعات من النبيذ ..
وسألت مراد :
ــ أتحب أن تشرب .. ؟
ــ سأشرب من قدحك ..
ــ هكذا بسرعة أصبحت ولهانًا ..
ــ نعم .. وفى " هانتشو " ركبت مع فتاة صينية فى زورق فى بحر يغطيه ورق اللوتس وقلت لنفسى هذه أجمل فتاة فى الصين .. فلما جئت أبردين ورأيتك وركبت زورقك قلت لا إن أجمل فتاة فى الدنيا هى صينية هنا فى أبردين ..

ورأى القتامة السوداء تنزاح عن وجهها رويدًا رويدًا وهى تطالعه بعينيها وقد سرت من كلماته ..

وقالت برقة :
ــ لقد طلبت منى فى هذا الليل أن أخرج بالزورق إلى هذا المكان فخرجت من أجلك .. والآن انظر معى إلى فم البحر الواسع إنه يبتلع كل شىء وفى بطنه الأسرار .. أسرار الدنيا .
منذ سبع سنوات وقبل أن يولد هذا الغلام ويوجد وكنت متزوجة حديثًا من " يونج " جاء إلى الشاطئ مثلك تمامًا شاب إنجليزى مهذب ، ونحن نعرف الإنجليز من سحنتهم من أول نظرة .. جاء وكان يتطوح من السكر وطلب منى أن أنقله إلى السفينة وأنا أرفض أن أتعامل مع هذا الصنف من المخلوقات لأنه سيسبب لى متاعب ، فرفضت ولكن صينيًا كهلاً كان على الشاطئ حذرنى من الرفض وقال لى إن أى إنجليزى يمكن أن يسحب منى رخصة الملاحة .. ويسحبها إلى الأبد .. ولمحت والصينى يتحدث ، ظل كونستابل على الشاطئ ، فأركبت هذا المخمور على الفور وابتعدت به عن الزوارق ..
وعند السفينة العائمة لم ينزل إليها .. قال لى إنه يريد أن يرى الخليج فدرت به إلى هناك ..
ولاحظت بعد كل حركة مدراة أن عينيه تلاحقاننى بنظرة فيها من الشهوة ما اختبرت مثلها مرارًا ..

وقال وهو يتطلع إلىّ :
ــ اتركى المدراة وتعالى واجلسى بجانبى ..
ــ لو تركت المدراة سنغرق والبحر عاصف ..
ــ لا يهم لا يهم ..
وكان سكره يزداد ورائحته تغطى رائحة البحر ..

وغاظنى أنه يتصور أننى ما دمت فقيرة فأنا رخيصة وطوع أمره ..
وسألنى :
ــ كم تأخذين فى الجولة إلى السفينة العائمة .. ؟
ــ عشرة دولارات هونج كونجى ..
ــ سأعطيك مائة وألف ألف إذا جلست بجانبى ..
ــ قلت لك إذا تركت الدفة فسنغرق ..
ــ لا يهم لا يهم ..
ــ ما الذى تريده ..
ــ تجلسين معى هنا ..
ــ فى شاطئ استانلى وهو ليس ببعيد وأنت تعرفه جيدًا ، لأنه محرم على سواكم من البشر .. فى هذا الشاطئ تجد أكثر من إنجليزية حسناء يمكن أن تلبى رغباتك ، أما أنا فأشتغل ملاحة .. وأعيش بعرقى ..
ــ ولكنى أريدك أنت ..
ــ هل أحببتنى بسرعة هكذا .. ؟
ــ أجل ..
ــ ولكنى لا أحبك ..

ونفذ هذا الكلام كالسهم فى رأسه المخمور فوقف ومن عينيه يتطاير الشرر .. ولمحت هذا فأخذنى الرعب وأخذت أغير سلوكى وأروضه ..

فقلت له بعذوبة :
ــ هل تريدنى حقًا .. ؟
ــ نعم .. نعم ..

فأخذت فى خلع صدارى وكان لا يزال واقفًا أمامى ، وتحركت وأنا أنزع ملابسى إلى سطح الزورق ، وتحرك معى وأصبحنا عند موضع الدفة ، وألقيت الصدار فى بطن الزورق ، وكنت أود أن أتحرك بيدى بسهولة ، وجمحت به الشهوة ، وشرع ذراعيه ليطوقنى ، وفى هذه اللحظة الخاطفة ، دفعته بكل قوتى وغضبى وكرهى إلى الماء .. فغاص ثم ظهر ثم غاص .. وجلست ساعة أرتعش من الرعب كالمشلولة التى تعجز عن كل حركة ..
ثم حركت المدراة وابتعدت حتى وصلت إلى الشاطئ ..

ومرت ساعات .. وأيام .. وأسابيع دون أن أسمع خبرًا .. أو يوجه إلىّ سؤال ..

وفى كل يوم كنت أتجه بالزورق إلى نفس المكان فى الليل .. دون أن يدرى أحد مقصدى ..

ولكنه لم يطف ولم يظهر قط .. لا على الشاطئ ولا فى المدينة .. غرق ..

ــ كيف يغرق والإنجليز جميعًا يجيدون السباحة .. لأنهم بحارة ..؟
ــ ولماذا لا يغرق وقد كان فى كامل ملابسه وفى أشد حالات سكره ..؟!
غرق .. أو لم يغرق .. ولكننى غرقت أنا فى بحر من الحزن .. كل ما فى الأمر أنه تصورنى رخيصة لأننى فقيرة وكان هذا منبع الجرح .. ومنبع الغيظ ، ومحط الإثارة .. ولكن هل يدفع هذا إلى الجريمة ..
يا كنفشيوس العظيم .. إننا جميعًأ حمقى رغم كل تعاليمك وكل عظاتك ..

وبعد هذا بستة أسابيع سافر زوجى " يونج " إلى بانكوك ولم يعد .. ولم أسمع عنه خبرًا .. وقلت لقد جاء القصاص .. إن هذا بذاك ..

وأمسك مراد بيدها وضغط ..
ــ كم أنت مسكينة وشقية وأنا لا أدرى .. ولا أرى فى وجهك إلا الجمال والسكون .. أما روحك المعذبة فقد جهلتها .. فاعذرينى لغباوتى ..
ــ أبدًا .. لا تقل هذا .. لقد استرحت إليك من أول نظرة .. وعندما طلبت منى أن أتجه إلى هنا طاوعتك وغمرنى الاطمئنان وحدثتك بعذابى .. ونفسى تحدثنى بأنى رأيتك فى كل مكان تتجول فيه فى شوارع هونج كونج .. فى الكوين رود .. وفى شارع " دى فو " وفى محل .. " لان كراوفورد " ..
ــ إنى أحمل نفس الإحساس .. لقد كنت معى هناك فى الصين الأم .. وستظلين معى فى كل مكان ..
واتجهت بالزورق إلى الشاطئ ..

وقالت وهى تنظر إلى هناك :
ــ إن والدى ينتظرنا ..

ورأى شيخًا طاعنًا فى السن يقف على الساحل ولا يعبأ بالمطر .. وخرجت " ليانج شان " تحمل طفلها .. تحدثت مع والدها طويلاً ، وهبط الشيخ إلى الزورق وسلم على مراد وأخذ يحادثه بإنجليزية مكسرة الحروف ..
ثم تركه وهو يقول :
ــ سنبحث لك عن مكان تقضى فيه الليل .. لأن ذهابك الآن إلى فندقك أصبح متعذرًا ..

وشكر " مراد " الشيخ بحرارة .. وجلس فى الزورق يرقب ما حوله وقد سرحت به الخواطر .. وامتلأ رأسه بالأفكار .. وعجب لتصاريف الحياة .. مجرد نزهة مع فتاة عاملة على زورق .. ككل فتاة رآها من قبل تعمل فى القطار .. أو فى الباخرة .. أو فى الطائرة .. مجرد نزهة تكشف له عن هذه المأساة ..

إن الفتاة لم تنس قط فعلتها رغم أنها حاولت مرارًا أن تنساها بكل وسيلة ممكنة ، وما الذى فعلته لتنسى ما الذى فعلته ..؟ ما الذى فعلته .. لقد .. لقد .. لا .. لا ..

* * *

استطاعت الفتاة بلباقتها .. وكياستها أن تخلى له الكوخ الخاص بهم .. وتذهب هى ووالدها الشيخ وطفلها إلى جيران من أقربائهم يقضون فيه هذه الليلة ..

* * *

وجلس على فراش من الحرير .. والغرفة مزينة بستر حريرية ومفارش جميلة على المناضد .. ورسوم مطرزة على الحيطان .. والكل بلون واحد ..

وجلسوا معه يسامرونه .. وظل الطفل صاحيًا .. كفارس كما وصفته أمه .. ثم حملته أمه إلى جيرانهم .. وعادت تعد مائدة العشاء ..

وأكل مراد .. بالعصوين .. وكان قد أتقن الأكل بهما فى الصين ، وضحكت الفتاة ووالدها .. لبراعته فى استعمالهما .. وشرب معها النبيذ .. وتحدثوا فى كل شىء .. تحدثوا عن الحروب .. وتحدثوا عن هونج كونج التى سقطت فى يد اليابانيين فى ثلاثة أيام .. ثم استرجعها الإنجليز .. وعادت الدائرة تدور .. وظل الإنجليز فى قصورهم على الشاطئ .. وهم يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسأل مراد الشيخ :
ــ أصبحت هذه الحياة سهلة عليكم كما أعتقد وأتقنتموها ..
ــ اعتدنا على هذه الحياة .. وألفناها .. ولم نفكر فى التغيير والعادة حكمها رهيب .. ولم نعد نحس بالهوان ..
ــ من يهن يسهل الهوان عليه ..
ــ ماذا تقول ..؟
ــ هذا شطر بيت من الشعر لأكبر شعرائنا العرب .. ومن الصعب ترجمته بألفاظه لبلاغته .. وسأشرح لك معناه ..
ــ معناه حكمة أزلية .. لقد اعتدنا على العيش فى الماء .. ولم نطلب التغيير ولم نسع إليه .. فبقينا كما كنا ..!
ــ ولماذا لا تخلصكم الصين الأم من احتلال الإنجليز .. ؟
ــ تستطيع الصين الأم أن تفعل هذا .. ولكنها لا تفكر فيه .. لأن هونج كونج هى المنفذ المتدفق لبضائعها .. والذاهب منها إلى كل مكان .. لماذا الحرب والدمار ..؟ وربما وصلنا إلى القنبلة النيترون ونحن لا ندرى .. لماذا كل هذا ونحن نتحرك فى سلام وأمن .. والصينى فى هونج كونج يعمل كالنحلة فى كل الحرف ويتقن فى كل صناعة .. والبلد لحرية التجارة فى رخاء مذهل .. وتفتح ذراعيها لكل سائح ..

وقالت الفتاة بنعومة لوالدها :
ــ السيد " مراد " يريد أن يستريح الآن يا والدى .. ولا يجب الحديث عن الحرب والسياسة .. فهيا .. ليأخذ حظه من النوم ..

* * *

وحياة الشيخ وخرج مع ابنته .. بعد أن أغلقت الفتاة وراءها الباب ..

ولكن مراد لم ينم .. رغم شعوره بالدفء والسكون .. ظل ساهرًا يفكر فى هذه الفتاة .. ظل ساهرًا يفكر فى " ليانج شان " التى عرف اسمها أخيرًا .. ظل يفكر فى كرمها مع فقرها .. فقد أعدت له بيتها الصغير .. تركت له الكوخ .. وذهبت إلى الجيران .. ولولا التقاليد والعادات المتأصلة فيهم .. لضموه إلى أحضانهم .. وناموا معه وهو الغريب تحت سقف واحد ..

لماذا بقى فى هونج كونج كل هذه الأيام .. لأنها فتحت له ذراعيها وهو يهبط من الطائرة .. وخرج من المطار بعد دقيقة .. لم يشعر بأى قيد .. شعر بالحرية التى يحبها كل إنسان .. حتى الإنجليزية المكلفة بالاطلاع على ورقة التطعيم الدولية .. استقبلته بابتسامة ومرح .. كأنها تعرفه من قبل وكأنها تحبه .. ترك الجميلة .. وخرج إلى الشارع .. فوجد الجمال والنظام والعمل .. والعمل بجنون .. وهذه هى الأشياء التى يحبها .. وجد حركة المرور كلها تقف للأطفال الصغار عندما يعبرون الطريق .. هذه هى الحضارة .. حضارة الصين العظيمة منذ آلاف السنين .. برزت .. من وراء القرون ..

* * *

أى خبل لماذا لا ينام .. ؟ هل يترك عمله ويبقى فى هذه المدينة لأنه يحبها .. ولأن فيها فتاة أحبها .. أى جنون .. كيف يترك وطنه الذى رعاه وأطعمه وسقاه وشرب من مائه وتغذى من طينه ..؟ كيف يتركه .. أبدًا .. أبدًا سيعود إليه .. سيعود .. وسينام .. وفى رأسه الحب والجمال .. والسلام .. قنبلة النيترون .. لا .. هيروشيما أخرى لا .. إرهاب .. لا اختطاف طائرات .. لا .. ماذا جرى للشباب فى هذا العصر .. عصابات المافيا .. مارلون براندو .. أعظم الممثلين فى هذا العصر .. المافيا .. لا .. ولكنه مثل أعظم أدواره .. وهل بقيت المافيا بعد التمثيل أم ذهبت .. ؟ لا يدرى .. هل سكر من النبيذ وأصبح يخرف ..

أين ذهبت " ليانج شان " وتركته وحده .. فى الليل والبرد .. والظلام ..

* * *

وقبل أن ينبلج الصبح شعر بأنفاسها .. ورضاب شفتيها على شفتيه .. وشدها إليه .. وشعر بأنه يغوص فى ظلام هذا الوجود الذى لا يعرف ولا يدرك معناه .. ولا يدرى لماذا وجد فيه ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 28/12/1981 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===========================
======




سونيا الجميلة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


سونيا الجميلة
قصة محمود البدوى

التقيت « بسونيا » لأول مرة فى بنك الصين ، وكانت فى الصف عندما خرجت من فمى على سبيل السهو بضع كلمات باللغة العربية جعلت الموظف فى حيرة ..

ولكنها ابتسمت وأزالت حيرته بأن ترجمت له الكلمات فى الحال إلى اللغة الانجليزية .. فحولت إليها وجهى فى دهشة .. لأن أول شىء خطر على بالى فى تلك اللحظة أنها مصرية ووجود المصرية فى هذه المدينة نادر الحدوث ويبعث على الدهشة .. ووددت لو أوجه إليها أول سؤال لأعرف حقيقة المسألة ، ولكننى تباطأت وكانت هى أسرع منى فخرجت على عجل من الصالة بعد أن فرغت من عملها ..

ثم رأيتها مرة أخرى واقفة على الرصيف فى « كولون » تنتظر مثلى الباخرة التى سنعبر بها الخليج إلى « هونج كونج » وكانت بصحبة رفيقة صينية فى مثل سنها ومع أننا كنا فى الطابق الأول من الباخرة .. ولكنهما خرجتا قبلى مسرعتين على الكوبرى الخشبى .. ولما استدارت لمحتها تنظر إلى ناحيتى ولا أدرى أكانت تقصدنى أم تقصد شخصا آخر ..

والتقيت بها بعد ذلك بثلاثة أيام فى « حدائق النمر بهونج كونج » وكانت برفقة نفس الشابة الصينية .. وكانتا تتبختران بين الأشجار كأجمل شابتين بين المروج وأنا وحدى أتسكع .. فرفت على ثغرها نفس الابتسامة التى رأيتها فى البنك .. وسمعت صوتها وضحكتها ثم غابتا عن بصرى ..

وفى اللقاء الرابع وجدتها أمامى فى الترام ذى الطابقين بشارع هوليود فى مدينة هونج كونج .. وكأننى عثرت على شىء عزيز كان ضائعا منى منذ سنين طويلة ووجدته فجأة ولذلك تشبثت بها بقوة .. وحادثتها على التو باللغة العربية التى لا يفهمها أحد فى الترام ولا فى المدينة .. وعرفتنى بأنها درست بقسم اللغات الشرقية بجامعة موسكو .. وزاد ذلك من سرورى ولا أدرى إحساسها فى ذلك الوقت ، ولكننى شعرت عن يقين بعد أن نزلنا من الترام وأخذنا نتهادى فى شارع « دى فو » بأنها استراحت للقائى الذى لم يكن على ميعاد .. كما استراحت لصحبتى ..

وحدثتنى بأنها قادمة من نيودلهى وستمكث عشرة أيام فى « هونج كونج » ، وتسافر منها إلى « بكين » .. وأنها تنزل الآن عند الصديقة التى رأيتها معها من قبل ..

وقلت لها أنى أنزل فى فندق « شمروك » بشارع « نثان » وأتمنى أن يكون منزل صاحبتها قريبا من الفندق لنتلاقى فى الأيام القليلة التى سنقضيها فى « هونج كونج » ..

وعبرت لها عن بالغ سرورى لأنى وجدت من يحدثنى بالعربية بعد غيبة ثلاثة أشهر عن القاهرة .. ويضاعف من هذا السرور أن تكون المتحدثة شابة جميلة ورقيقة المشاعر مثلها .. واحمر خداها لهذا الإطراء ..

ولما كانت قد جذبتنى بروحها الجميلة وملامحها الشرقية وخجلها العذرى .. فقد حرصت على ألا أجعلها تفلت من يدى بعد أن جمعتنا الأقدار لأول مرة فى صالة البنك ..

وكنا قد ملنا إلى شارع « كوين رود » دون أن نشعر مستعرضين الحوانيت كسائحين متعطشين لكل ما تقع عليه العين فى مدينة الأعاجيب التى وطئتها أقدامنا لأول مرة ..

ووقفنا عند قاعة « كافيه دى بارى » .. فعرضت عليها أن ندخل ونستريح حتى يحين موعد لقائها مع صاحبتها الصينية التى سترافقها فى جولة ..

ووافقت وأزحنا الستر ودخلنا فى مكان جميل هادئ .. وسمعنا ونحن نتقدم نحو المائدة التى اجتزناها أنغاما صينية خافتة استراحت لها حواسنا ..

وجلسنا إلى مائدة واطئة وحولنا الستر الحريرية الحمراء عليها خيوط الذهب وشعرنا بالدفء والراحة بعد تناول قليل من الطعام وشرب الشاى ..

وأخذت أحادث « سونيا » باللغة العربية الخالصة التى كنت أستثقلها فى مصر ولكننى أحببتها الآن من أجلها .. وقالت لى إنها عائدة إلى بكين ومنها ستسافر إلى موسكو .. وإنها تعد دراسة عن الحالة الاجتماعية فى جمهورية مصر العربية والهند بعد الحرب العالمية الثانية .. فهما دولتان ناميتان أخذتا فى التصنيع .. وأبدت رغبتها فى زيارة القاهرة التى تحبها وتود أن تعرف الكثير عنها .. وسرها للغاية معرفة مصرى مثلى فى « هونج كونج » ..

وقرأت فى عينيها السؤال عن السبب فى وجودى فى هونج كونج .. فقلت لها أنى كنت فى زيارة أخى الأكبر الذى يعمل فى « بانكوك » ولقربى من « هونج كونج » وكنت أسمع عنها الكثير وجدتها فرصة سانحة لزيارتها.. ومهد لى أخى المال اللازم لذلك ..

وأضفت وأنا أحدق فى وجهها الجميل ، وفى بريق عينيها الخضراوين وفى الحمرة التى علت خديها ..
ــ وما دمت قد وجدت من يحدثنى بالعربية سأظل فى « هونج كونج » إلى أن تسافرى ..
ــ ألا يوجد من يتكلم العربية هنا ؟ ..
ــ أبدا .. ان هذا نادر .. يوجد من يتحدث بها فى القنصليات العربية الموجودة فى المدينة .. ولكننى ما جئت هنا لأذهب إلى هؤلاء ..

وقالت بعذوبة :
ــ يسرنى الحديث بلغتك .. لأنى تركتها مذ غادرت موسكو ..
ثم أردفت بحماسة :
ــ وكم أنا فى شوق لزيارة القاهرة ..
فقلت لها ..
ــ يسرنى أن أستضيفك إذا ذهبت إلى هناك .. وستفرح بك والدتى وأختى .. وهى فى مثل سنك ..
ــ شكرا .. شكرا ..

وكانت تكرر هذه الكلمة كثيرا .. بالتفخيم حتى كان قلبى يضحك .. ولم أكن وأنا فى صحبتها أتصور أننى بعدت عن القاهرة شبرا واحدا .. فقد كانت تنقلنى بملامحها وطباعها إلى هناك ..

ولقد جذبتنى إليها بقوة المغناطيس .. والشابات اللواتى فى مثل سنها من الأوربيات والأمريكيات والآسويات والأفريقيات اللواتى كنت أراهن يتجولن فى شوارع « هونج كونج » فى مطلع عام 1971 كن يلبسن المينى جيب.. فى صميم الشتاء ..

أما هى فكانت تلبس جونلة تغطى الركبة وبلوزة صوفية تصل إلى العنق .. ولم يكن فى وجهها غير زينة خفيفة بل وأقطع بأنها لا تضع أحمر شفاه على الإطلاق ..

ولكم تمنيت وأنا أحدق فى ثغرها لو لمسته بشفتى وذقت حلاوته على الطبيعة ..

وكان ميعاد صاحبتها قد اقترب .. فنهضنا .. ورافقتها إلى الميناء .. ولما تقدمت إلى الشباك لأقطع لها التذكرة وثمنها لا يزيد على قرشين .. عارضتنى ورفضت بشدة .. ولكننى أخيرا تغلبت عليها ..

وقلت مازحا :
ــ أنت مصرية يا سونيا ..
ــ وهل المصريات يفعلن ذلك ..؟
ــ أجل .. لهن نفس الطباع ..
وضحكت ..

ولما رست الباخرة هبطت إليها بسرعة .. وتلفتت نحوى .. قبل أن تجلس على الدكة الخشبية .. وكنت لا أزال واقفا فى مكانى فحيتنى بيدها وقد وجدت فى هذه الحركة تحية ود جميلة ..

* * *

ومع أنها أعطتنى عنوان المنزل الذى تقيم فيه وكان فى شارع « شنغهاى » بكولون ..

ولكنى لم أجد فى نفسى الرغبة فى قرع بابها .. لتحفظها الشديد .

وتركت يوما كاملا بنهاره وليله يمضى دون لقاء .. وحدثت نفسى بأنها إذا رغبت فى لقائى .. فمن السهل عليها الاتصال بى تليفونيا ما دامت تعرف الفندق ..

ومر اليوم الثالث كله دون لقاء أيضا .. وإن كنت قد ذهبت إلى قاعة « الكافيه دى بارى » فى « هونج كونج » .. لعلى أجدها هناك ..

وفى صباح اليوم الذى يليه دق جرس التليفون فى غرفتى قبل أن أتناول الإفطار وحدثتنى موظفة الاستقبال .. أن سيدة تنتظرنى فى بهو الفندق ..
فقلت للموظفة :
ــ أعطيها رقم الغرفة لتصعد .. لأننى أتناول الإفطار ..
فقالت :
ــ لقد أعطيتها الرقم يا سيد / حسن .. ويبدو لى أنها تفضل الانتظار هنا ..
فقلت للموظفة :
ــ مس لى .. أعطيها السماعة من فضلك ..

وجاءت سونيا على الخط ..
فقلت لها :
ــ آنسة سونيا .. أرجو أن تصعدى .. فأنا لم أفطر بعد ..
ــ لا داعى لإزعاجك .. وسأنتظرك فى البهو حتى تفطر ..
ــ ولماذا تجلسين وحدك .. تعالى ..
ــ سأتحدث مع الموظفة حتى تحضر ..

ونزلت إليها قبل الإفطار وأنا مستاء قليلا من هذا التصرف .. لأنى شعرت أنها لا تثق فىّ .. ولكننى التمست لها العذر .. لأننا لم نتعارف بعد المعرفة التى توجد عندها هذه الثقة ..

* * *

ووجدتها ترتدى ثوبا بنفسجيا من الصوف .. وتغطى شعرها بإشارب وفى قدميها حذاء أسود .. وفوقه جورب وردى من النايلون جعل ساقيها أكثر جمالا وفتنة ..

وجلست بجوارها على كنبة مغطاة بحشيات من الحرير .. وأنا مأخوذ بجمالها وببشرتها الناضرة ..
وطلبت من الساقية الشاى ..
فقالت بعذوبة :
ــ لا داعى له .. سنشربه فى « هونج كونج » ..
ــ لم أفطر .. وتركت الطعام على المائدة ..
ــ سنفطر فى « هونج كونج » .. أريد أن أتسوق بعض أشياء لأخى .. ورأيت أن آخذ رأيك كرجل قبل شرائها ..

وخرجنا من الفندق بعد الساعة التاسعة صباحا . وكان الجو جميلا .. بعد مطر لم يدم طويلا .. والحركة فى الشوارع على أشدها .. وكل شىء يتحرك بسرعة ونشاط .. السيارات الصغيرة والكبيرة .. والترام ذو الطابقين .. والرجال والنساء .. كل يتحرك فى سرعة دافقة كأنه فى سباق ..

ومر بجوارنا تاكسى فاستوقفته ..
وقالت :
ــ المسافة قصيرة .. فلماذا لا نمشيها .. والجو فيه لسعة برد خفيفة أحب أن أتحرك فيها ..
ــ إننى جائع .. ولا أستطيع المشى وأنا جوعان !..

وأركبتها قبلى .. ولما جلست بجوارها أدركت أن التاكسى صغير جدا .. وأكاد ألتصق بها .. وظهر عليها الخفر ولزمنا الصمت ..

* * *

وفى الباخرة التى أقلتنا إلى « هونج كونج » جلسنا دون قصد على دكة خشبية بجوار فتاة صينية .. عرفتها بعد جلوسى وعرفتنى .. فتجاذبنا الحديث لفترة قصيرة بالإنجليزية .. فقد كانت مضيفة فى الطائرة التى نقلتنى إلى « هونج كونج » ..
ولاحظت أن وجه سونيا أحمر وأنا أحادث الفتاة ..

ولما خرجنا من الباخرة .. وأصبحنا فى شارع « دى فو » قاصدين المتجر قلت لأزيل من رأسها سوء الفهم ..
ــ الفتاة مضيفة ..
ــ مضيفة ..؟!
ــ أجل .. وركبت معها الطائرة من « بنكوك » إلى مطار « كاى تاك » ..
ــ وتتذكرك مع عشرات الأشخاص الذين كانوا فى الطائرة .. ؟ انها ذكية جدا .. !
ــ لقد سافرت معها فى رحلة أخرى .. ولهذا السبب أعتقد أن صورتى ظلت فى ذهنها .. فلقد كنت المصرى الوحيد ..
ولم تعقب سونيا .. ومشينا صامتين حتى دخلنا المتجر ..

* * *

وصعدنا على السلالم الكهربائية إلى الطابق الرابع .. فى متجر « لين كراوفورد » ووقفنا أمام فتاة صينية مليحة الوجه سوداء الشعر ترتدى معطفا أزرق ..
واستقبلتنا بالترحيب ..

وخطر لها للوهلة الأولى أن سونيا زوجتى .. فأخذت تحادثها على هذا النحو .. وقدمت لها أجمل ما عندها من القمصان .. الأرو .. والنايلون .. والبلوزات .. والكرافتات الحريرية ..

ولما انتقلنا إلى قسم الجوارب .. رافقتنا .. لتدلنا على الطريق وتقدمنا إلى الفتاة المختصة وهى تنحنى فى رقة أذهلتنى ..

ولقد اشتهيت هذه الفتاة بكل مفاتن جسمها اللدن .. وكل العذوبة والرقة والاشتهاء الصامت الذى وجدته فى عينيها ..

واشتريت أشياء كثيرة بأقل الأسعار إكراما لها .. كما اشترت سونيا ..

ولما أصبحت الربطة كبيرة .. فضلت البائعة أن يرسلها المحل على عنواننا حتى لا نتعب فى حملها ..

فسألت سونيا بالعربية :
ــ هل نرسلها على عنوان صاحبتك .. ؟
ــ اجعلها على عنوانك فى الفندق .. لأنه أقرب ..
وفعلا كتبت عنوانى ..

وبارحنا المتجر والساعة تشير إلى الحادية عشرة .. وكان أمامنا وقت طويل للتنزه قبل ساعة الغداء ..

فمشينا فى شارع « كورواى بيى » نتسكع كما اتفق .. واستلفت نظرى صورة كبيرة « للولو بريجيدا » على باب سينما « كابيتال » أغرتنا على أن ندخل السينما ونشاهد الفيلم وكنا لم نر فيلما إيطاليا من مدة طويلة ..

وكان البلكون فى الدور الثانى فصعدنا سلالم خشبية مغطاة بالسجاد .. وخيل إلينا والعامل يدلنا على مكان جلوسنا فى الظلام أن الصالة خالية من الرواد ..

وجلسنا نحدق فى الشاشة .. وكانت بعيدة جدا .. والسينما مع أنها فخمة وأنيقة .. لكننا شعرنا فيها بالوحشة .. لشدة الظلام ورهبته ولأن المقاعد التى حولنا وأمامنا بدت خالية تماما وغمرنا الإحساس المشترك بعد دقيقة واحدة من دخولنا إلى السينما أنها تشتغل لنا وحدنا ..

وكانت « لولو بريجيدا » .. قد نهضت من فراشها فى هذه اللحظة تتثاءب وهى فى قميص من الدانتلا الأسود يكشف كل مفاتن جسمها العاجى .. ويزيد من حلاوته .. ومرت علينا فى هذه الجلسة الشاحبة عشرون دقيقة وأكثر .. ونحن لم نتبادل كلمة واحدة .. ولم أجرؤ فى خلالها على لمس يدها .. بعد أن وجدتها جالسة كالمتخشبة على المقعد ..

وملت عليها أحدق فى عينيها ، وأقول بصوت خافت فيه الكثير من عواطف القلب .. محاولا بذلك أن أحرك رمادها البارد ..
ــ أتشعرين بالبرد .. يا سونيا ..؟
ــ أبدا .. التكييف يعمل بحرارة ..
ــ هل أعجبك الفيلم ..؟
ــ رائع .. ولكن يبدو أنه بدأ من مدة ..
ــ سنبقى حتى نراه من أوله .. فالعرض مستمر ..
ــ هذا أحسن ..
وأمسكت بيدها .. بعد هذا الحديث .. ولمستها برقة ..
فأبقتها فى يدى لحظات ثم سحبتها ..

* * *

وشعرت من هذه الحركة ببرودة شديدة .. وتجمد فى ألياف لحمى .. ودمى .. حتى وإن كنت أتوقعها منها .. ثم تمالكت نفسى .. ولم أر ما يدعو لأن أعكر صفو الجلسة .. والرواية جميلة والممثلون يهزون المشاعر .. وخرجنا من السينما والساعة قد تجاوزت الثالثة ظهرا ..

* * *

وكنت فى حالة اكتئاب لم أستطع أن أخفيها ولذلك سرنا فى الشوارع كزوجين مضى على زواجهما عشرات السنين فأصبحا خامدين صامتين .. لا تحركهما حتى الأعاصير ..

فقد كنت أتوق بحرارة الشباب وطبعه إلى لمس يديها وشفتيها .. ولكنها قابلت كل ذلك بحماقة .. جعلتنى أتبلد ..

ثم بعد ساعة تأججت عواطفى من جديد ونسيت حماقتها فى السينما .. وغفرت لها هذا التحفظ ..

* * *

وأصبحت فى كل ساعة تمر أزداد حبا لها وتعلقا بها .. فقد جذبتنى بكيانها كله وروحها العذبة .. جذبتنى بشىء خفى لا أستطيع تحديده .. فكنت أحس بضربات قلبى كلما أهلت علىّ بوجهها أو سمعت صوتها .. أو حتى سمعت من بعيد موقع أقدامها على درجات الفندق ..

ولم أستطع تعليل هذا الحب الجنونى .. ولقد شغلتنى بشمول كامل فى مدى أربعة أيام فقط عن النساء جميعا .. فأصبحت متعففا إلى درجة كبيرة ..

وعجبت لنفسى .. وقد كان غرضى الأول من زيارة « هونج كونج » أن أغوص فى قلب المدينة وأختلط بكل أجناس النساء .. وأبدأ بالإنجليزيات وكن يتعالين علينا فى مصر بسبب الاستعمار الطويل .. أما هنا فنظرتهن تختلف تماما ..

وفكرت أن ألتقى بواحدة منهن على التو لأحقق رغبة دفينة .. ولكن سونيا .. غيرت مجرى سيرى وحياتى .. واستولت على روحى وجسمى .. تملكتنى تماما .. ولم أستطع إلى هذه اللحظة الفكاك منها ..

كانت فيها قوة خفية للأسر .. الأشياء التى كانت تنفرنى منها كانت هى التى تقربنى إليها .. خفرها الشديد .. وهدوؤها ..واحتشامها .. جعلتها فتاة غير فتيات العصر ..

* * *

وفاتنى ميعاد الغداء فى الفندق بسبب السينما .. فتغدينا معا فى « هونج كونج » ثم ركبنا الباخرة إلى « كولون » وكانت الساعة تقترب من الرابعة .. والجو فيه غيوم خفيفة ولسعة برد .. ولكنه محتمل .. ورأينا أن نتمشى إلى بيتها ..
وعلى الباب ودعتها .. وأنا أقول :
ــ ستأتين فى المساء .. لأخذ حاجتك .. لابد أنها وصلت الآن ..
ــ سأتلفن لك ... قبل السابعة .. وأحب أن نتجول معا فى « كولون » ..
وحييتها وانصرفت وأنا شاعر بالفرح ..

* * *

ووصلت إلى الفندق فى الفترة التى تنقطع فيها المياه عن المدينة .. فاستلقيت على الفراش أقلب صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية .. حتى تعود المياه إلى مجاريها .. وكانت صورة « سونيا » تحتل كل صفحة .. فألقيت الصحيفة من يدى .. وأخذت أرتب الغرفة .. وأمسح على الكرسى الطويل الذى ستجلس عليه .. وأرتب المنضدة الصغيرة .. وأرخى ستر النافذة وأخفضه ..

وكانت الغرفة صغيرة ولكنها جميلة وأنيقة وتطل على الشارع .. فوقفت بجوار النافذة أرقب حركة المرور فى المدينة الساحرة ..

كان المارة حتى فى « كولون » وهى ليست مزدحمة بالسكان « كهونج كونج » يتحركون فى سرعة شديدة .. كأنما هناك من يلهب حواسهم إلى النشاط والحركة السريعة ..

وكانت المدينة التجارية الصغيرة يتدفق فيها فى هذه الساعة أجناس من كل ألوان البشر .. وسيارات التاكسى الصغيرة تمرق كالسهام .. وعربات الترام من طابقين أنيقة ونظيفة .. وتتوقف تماما للأطفال الخارجين من المدارس .. فى غير المحطات وغير أماكن المرور ..

والصينيات الجميلات فى الجونلة المشقوقة عند الفخذين يتحركن بجانب الأوربيات والأمريكيات اللواتى يلبسن المينى جيب .. والبنطلونات .. وهذا الخليط من النساء وفيهن السمراء والشقراء .. والطويلة والقصيرة .. وذات الدل .. هذا الخليط يشوقنى ..ويلهب الحواس .. ولكنى تركته ..

وأحسست بعودة المياه .. فأسرعت إلى الحمام .. لأنتهى منه بسرعة خشية أن يدق التليفون .. وأنا بداخله ..

ولمحت وأنا خارج من الحمام فى الطرقة الخلفية خادم الفندق يحمل حقيبة ويتقدم سيدة شقراء طويلة القوام ترتدى فستانا رماديا من قطعة واحدة .. وتمهلت فى سيرى حتى عرفت رقم الغرفة التى نزلت فيها ..

ولما أدار الخادم أمامها مفتاح الباب .. ووقفت تنتظره لمحت آلة تصوير معلقة فى كتفها .. وخمنت بأنها سائحة أوربية وحدها ..

* * *

وفى الساعة السابعة دقت « سونيا » جرس التليفون .. فسألتها :
ــ من أين تتحدثين يا سونيا ..؟
ــ من تحت ..
ــ اصعدى .. أنا فى انتظارك ..
ــ سأصعد ..
وأعطيتها رقم الغرفة ..

وجاءت تتهادى كالعروس .. ولم أشعر بفرحة فى حياتى كما شعرت فى هذه الساعة .. ولما جلست على الكرسى الطويل المريح الذى أعددته لها .. خرست وأنا أنظر إلى جمالها كله .. محصورا فى أربعة جدران .. فى غرفة صغيرة .. انعقد لسانى ثم حلت عقدته .. وأخذت أهضب فى الحديث وأسح .. وهى صامتة مبتسمة .. والتى كانت من قبل هى المتحدثة وحدها صمتت الآن لتسمعنى ..

ولما أخذت الربطة .. لأخرج أشياءها .. قالت وقد تكسر خداها وأصبحا بلون العناب ..
ــ ابقها .. الآن .. فإنى أحب أن أشاهد « كولون » فى الليل وأنت معى ..

وتجولنا أكثر من ساعة فى المدينة .. ثم دخلنا ملهى « امبريال » ولاحظت أنها فى شوق إلى مشاهدة هذه الأشياء لأنها غير موجودة فى بلادها .. وتود فى فترة وجودها فى « هونج كونج » أن تشبع منها .. وتحس بالاكتفاء ..

وكانت الصالة خافتة الضوء .. وشاحبة وممتلئة بالرواد .. من السائحين وهم الغالبية واخترنا ركنا .. أكثر ظلاما من كل جوانب الصالة .. ولا أدرى من منا الذى كان يريد أن يتخفى عن الأنظار ..
وطلبنا نبيذا أحمر .. ولم نشرب كثيرا مراعاة لحالتها ..

وبدأت على خشبة المسرح عروض مختلفة من الغناء والرقص الصينى .. والأوربى ..

ثم بدأ عرض التجرد من الملابس من فتيات جميلات القوام ومنهن الصينيات أيضا ..

ولاحظت الخجل الشديد على وجه « سونيا » ولكنها لم تحول نظرها عن هذه المشاهد .. استمتعت بها كلها ..

وتلاقى فى الشوارع الصينى والهندى .. واليمنى .. والباكستانى .. والأرمنى .. واليونانى .. والإنجليزى والأمريكى ..

والصينى الذى يعيش ويموت فى الماء .. والذى يسكن الأكواخ الحقيرة القذرة فى « أبردين » ..

ثم المستعمر الذى يسكن القصور الفخمة على الخليج .. ويملك اليخوت للنزهة والمتعة ..

ومع كل هذا الخليط البشرى من مجتمعات كل البشر فى مدينة الأعاجيب دون تناسق أو رباط .. فإنك تشعر بالراحة عندما تضع قدمك فى المدينة وتتنفس هواءها .. ولا تدرى السبب على التحقيق ففيها جاذبية غامضة وحرية يستريح لها كل سائح وهو يتداول النقد فى أى مكان .. وأول ما يطالعك فى الميناء هو ابتسامة مشرقة وترحيب رقيق من فتيات إنجليزيات يلبسن المعاطف البيضاء .. وقفن وراء المنصة كأنهن ملكات الجمال يفحصن فى سرعة ودلال بطاقتك الصحية ..

وتوغلنا فى قلب مدينة « هونج كونج » وأصبحنا فى الحى الصينى الخالص بلافتاته الكبيرة المتشابكة ودكاكينه الصغيرة .. وحواريه الضيقة .. نشم رائحة الأطعمة الصينية من بعيد قبل أن نشاهد دخان المطاعم .. ونرى الأطعمة معروضة فى صحاف كبيرة وراء الزجاج فيسيل لها اللعاب ..

والصينيات فى المرايل البيضاء والزرقاء بوجوههن الصفراء والمستديرة وعيونهن المشروطة ورؤوسهن المعصوبة بالمناديل .. فى استقبالنا للخدمة ..

* * *

وقضينا نهارا جميلا أنا وسونيا فى الهضبة وأشرفنا من أعلى مكان فى المدينة على الجزيرة كلها بروابيها ومروجها الخضراء ..وخلجانها .. ورأينا أجمل المناظر الطبيعية على الإطلاق ..

وكانت « سونيا » متفتحة وشاعرة بالجمال كله .. وتتشرب روحها وجسمها من الأنفاس المتعطرة المحيطة بنا ..

وبرزت فى هذه اللحظة .. بجمالها كله .. وهى معتمدة على السياج الحديدى .. ومتجهة بعينيها نحو الشرق .. ولقد أسرنى قوامها فوددت لو أقبلها وأعتصر عودها ولكننى وجدت دافعا قويا يردنى عن ذلك ..

ثم ركبنا عربة « الركشة » وجلسنا متجاورين فى هذا الحيز الضيق .. وأخذ الشاب الذى يجرها يبتسم لنا فى مرح وتبرق أسنانه الذهبية .. وهو يسير بنا الهوينا ثم يسرع ثم يعود فيتمهل لنأخذ حظنا مما حولنا من جمال ونستمتع بالرحلة إلى مداها ..

* * *

وبعد أن نزلنا من الهضبة .. أخذنا نفكر فى نزهة أخرى ثم رأينا أن نتغدى فى السفينة العائمة لأنها كانت تسمع عنها وفى لهفة إلى رؤيتها ..

وحملتنا فتاة صينية ناضرة فى زورقها الصغير إلى السفينة ..

وجلسنا إلى مائدة نأكل السمك الطازج .. ونستمتع بكل ما حولنا من جمال البحر وكانت الشمس تذهب وتجىء ..

وشاهدنا زوارق أولئك المساكين الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسألتنى سونيا وهى تتجه بوجهها إلى ناحيتهم :
ــ أتعجبهم هذه الحياة ..؟
ــ لا أظن .. من يرضى بهذه الحياة الدون ..
ــ ولماذا لا يغيرونها ..؟
ــ ما أحسبهم يستطيعون ذلك .. فالفقر يعصرهم بقوة ، والحياة الرتيبة تشدهم إلى هذه الزوارق .. وهى بمثابة قبور لهم .. من اللحظة التى يولدون فيها .. يجدون هذه الرموس أمامهم وكأنها مصيرهم الأبدى ..
ــ إذا أرادوا التغيير .. يمكن أن يتغيروا ..
ــ لقد استطابوا هذه الحياة الضحلة .. ورضوا بهذا الهوان .. وما أحسب أن لهم إرادة على الإطلاق ..

وكانت الشمس تجنح للغروب عندما غادرنا السفينة .. وقد نقلتنا نفس الملاحة الصينية وقد أجزلت لها العطاء إكراما .. لطفلين لها كانا ممدين فى بطن الزورق شاحبين كالموتى ..

ووصلنا الفندق فى الليل .. وكانت الرحلة طويلة من « أبردين » إلى « كولون » فأحسسنا بالتعب معا ..

وجلست سونيا فى حجرتى تستريح وأنا قبالها .. أملأ عينى من حسنها كله .. وخلعت معطفها وحذاءها .. واسترخت .. فقلت لها برقة ..
ــ هل تنامين قليلا .. يا سونيا ..؟
ــ شكرا .. سأغلق عينى وأنا جالسة .. وأكتفى بهذا ..

وجاء الشاى فرشفته بقليل من السكر .. وانتعشت بعد لحظات قليلة .. ثم دخلت دورة المياه .. ولما عادت وجدتنى أغسل وجههى فى الحوض الذى فى الغرفة ..
وقلت لها وأنا أجفف شعرى :
ــ بللى وجههك بالماء الدافئ ..
ــ سأفعل ..
وغسلت وجهها .. وجففته جيدا وكأنها تدلكه ..

ثم وقفت أمام المرآة تمشط شعرها الأبنوسى الطويل الشديد البريق أجمل شعر رأيته على رأس حسناء ..

ولما استدارت عن المرآة وجدتنى أقف أمامها .. كالمأخوذ بكل هذه الفتنة وضممتها أخيرا إلى صدرى ..

وطوقتها وقبلتها فى شفتيها وعينيها وجيدها .. ثم نزلت إلى صدرها .. ودفنت فيه رأسى ..

ولا أدرى كم مضى من الوقت وهى واقفة ساكنة .. ولقد أحسست سكونها .. كأنها تروضنى .. ثم ذاب جليدها .. فطوقتنى .. ورفعت رأسى عن صدرها .. وقبلتنى قبلة سريعة ولكننى أحسست بحرارتها وحلاوتها .. وخلصت نفسها من عناقى .. وبحركة أغضبتنى ..
وجلست تسوى هندامها .. وشعرها .. بيديها ..

ووقفت أحدق فيها كالذى انتزع منه فجأة شىء يحرص عليه وعاش السنين كلها له ..

وبعد دقيقة من الذهول .. أمسكت بيدها لأنهضها .. فقالت بصوت أخرس :
ــ أين الربطة ..؟
ــ فأحسست بالبرودة تسرى فى دمى كله .. وتناولت أشياءها من الدولاب ووضعتها أمامها على النضد ..

ولبست معطفها وحملت أشياءها .. وأحسست بكل الخيوط وقد انقطعت فجأة بحد السكين وأوقفت لها « تاكسى » على باب الفندق وأركبتها فيه .. دون أن نتبادل كلمة ..

* * *

وبعد ذهابها .. شعرت بكآبة شديدة ووجدت نفسى أمضى فى الشوارع على غير هدى ثم أعبر الخليج إلى « هونج كونج » .. وأدخل الملاهى المثيرة .. وكنت أعرض نفسى فى سبيل المغامرة واكتشاف الأشياء المخبوءة إلى النشل والضرب حتى الموت ..

وفى « سنترال رود » وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل والطريق ساكنا رأيت من بعيد شحاذا يطارد سيدة .. ويضايقها بإلحاحه ولما سمعت السيدة خطواتى وراءها توقفت .. ولما اقتربت منها وجدتها جارتى فى الفندق..
فقلت لها بالإنجليزية :
ــ ما الذى جرى ..؟
ــ إنه يضايقنى .. وقد أعطيته نصف دولار .. ولكنه ظل يلاحقنى وأخاف على آلة التصوير ..
ــ لا تخافى .. إنه لا يسبب لك أى أذى ..

واستدار الشحاذ وبعد عنا وهو يبتسم فى خبث وأسنانه الذهبية تلمع فى الظلام ..

ولما اطمأنت لوجودى بجانبها سألتها :
ــ ولماذا تسيرين وحدك هنا .. فى هذا الليل ..؟
ــ كنت أصور سوق الخضار .. وهم يغسلونه فى الليل .. منظر ممتع ..
ــ لو كان معى آلة تصوير لفعلت مثلك ..
ــ حقا ..؟
ــ حقا ..
وضحكت ..
ــ إذن سأعطيك صورة ..
ــ شكرا .. ستكون أجمل تذكار ..
ورافقت « كارولين » إلى الفندق ..

وفى الصباح التالى تلاقينا فى البهو .. كأننا كنا على ميعاد .. وخرجنا إلى المدينة وقضينا النهار بطوله وجزءا من الليل معا .. ذهبنا إلى كل مكان ترغب أن تراه .. وكل ملهى ..

وفى اليوم التالى ذهبنا إلى « لوو » وعدنا بعد منتصف الليل إلى الفندق .. ونامت فى فراشى نصف عارية مشبوبة بكل أنوثتها ..

إنها ألمانية .. وتزوجت ثلاث مرات وفشلت فى المرات الثلاث .. وتعمل صحفية .. ومراسلة لمجلة ألمانية مشهورة .. وقادمة من نيودلهى .. ومسافرة فى الغد .. إلى طوكيو ..
وتجاوزت الخامسة والثلاثين .. ولكن فيها حرارة بنت العشرين .. وأحببتها .. وأخذت ألمس شعرها .. وأضغط على شفتيها .. وأمزج عرقى بعرقها .. ودمى بدمها ..

وسألتنى :
ــ أمتزوج ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين هى الآن ..؟
ــ فى الإسكندرية ..
ــ وجميلة ..؟
ــ جدا ..
ــ ولماذا تخونها ..؟
ــ لأنى أحبها ..
فضحكت ..
ــ أتكرهها ..؟
ــ إننى كلما اقتربت منها تتثاءب ..
ــ وأنا ..؟
ــ أنت مشبوبة العاطفة ..
ــ وأحببتنى ..
ــ بالطبع ..
ــ وتشعر بالسعادة .؟
ــ إلى أقصى غاية ..
ــ وستكتب لى .؟
ــ أجل .. من كل مكان أنزل فيه ..
واحتضنتها ..

* * *

وفى بكورة الصباح الضبابى الخفيف .. كانت نائمة بين ذراعى وشعرها الأشقر المتهدل يغطى الجبين .. فأمسكت بشعرات صغيرة ولمست بها شفتها السفلى مدغدغا .. فى نعومة ..

وفتحت عينيها .. على قبلاتى المحمومة .. وشدتنى إليها فى نشوة .. لم تكن كأية امرأة عرفتها .. كانت رائعة .. كأنما اجتمعت فيها كل خصائص الأنثى منذ حواء ..

وتذكرت وأنا أضغط على شفتيها ما قاله « بيرون » ليت النساء جميعا اجتمعن فى ثغرها فقبلته واسترحت ..
وقبلته .. وقبلته .. ولكننى لم أسترح ..

وشعرت بأصابعها تتحس فى نعومة كتفى وعنقى وصدرى .. كل شىء حولى كان جميلا وبلون العسل المصفى ..

وقبل الشروق بدأ المطر يتساقط وأخذت ريح خفيفة تهب وجعلت الشجر يتمايل ..

وكانت « كارولين » مستلقية فى قميص حريرى مغمضة عينيها .. كأنها تحلم .. ثم فتحت عينيها ونهضت فى تثاقل .. وقبلتنى وهزتنى فى مرح ..
ــ حسن .. إنى ذاهبة ..

ولبست ثيابها بسرعة دون زينة .. لتكمل زينتها فى غرفتها
وعلى الباب احتضنتها وقبلتها بقوة دون أن أعبأ بشىء ..

ولما رفعت رأسى عنها وجدت « سونيا » قادمة فى الطرقة متجهة إلى غرفتى ..

ولما شاهدتنا صدمها المنظر .. وتراجعت مضطربة .. وارتدت مسرعة إلى السلم ..

وسمعت وقع خطواتها .. وأنا أعصر قلبى ..
================================
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد مايو 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
======================================

حانة البحار السبعة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

حانة البحار السبعة
قصة محمود البدوى

تقع حانة البحار السبعة فى أجمل مكان على هضبة هونج كونج ..حيث التلال الزمردية وشجر الورد والتفاح والدردار .. وحيث أجمل ما خطت يد الطبيعة على وجه البسيطة ..

وكانت منحوتة فى جوف الصخر ومتخذة شكل التنين .. وتغطيها وتحيط بها الأشجار والأزهار .. وتدور بها طرق سوداء ملتوية كأنها طرق الحيات .. ولا يدرى أحد من أين جاءتها هذه التسمية وهى بعيدة عن البحر وعن الميناء .. ولا يدخلها بحار وندر أن تعرف مكانها بغير دليل ..

ولكن هونج كونج مدينة العجائب .. وحيث توجد أبردين .. ويوجد مائة ألف صينى يعيشون ويموتون فى الماء .. من الفقر والجوع فى زوارق فى حجم الذراع يوجد فى الجانب المقابل عشرات فقط من الأسر الإنجليزية الغنية على تخوم استانلى .. وتوجد الفيللات الأنيقة منثورة كالدر على صدر الهضبة .. ويوجد ألف متشرد ومتسول على أرصفة شستررود .. وكوين رود .. ودى فورود .. ويوجد ألف سائق لعربة يجرها الإنسان ..

ويوجد حشد عديم النظير يتحرك فى الشوارع حيث المتاجر والحوانيت الصغيرة والكبيرة فى قلب المدينة حيث السوق المفتوحة التى لا تخضع لأى قيود على الإطلاق ولا يوجد لها ضريب ..

وعندما تغلق الحوانيت والمتاجر تسطع أنوار الملاهى والحانات فى ليل هونج كونج الطويل ويظل الصخب والرقص فى مراقص من كل الأنواع تتخذ طابع البلاد المختلفة وفيها فتيات جميلات من الرقيق من كل أجناس الأرض .. يعشن حياة تعيسة .. ويذبل جمالهن قبل الأوان .. كما تذبل الزهور الناعمة تظل هذه المراقص المتخذة طابع المراقص الصينية والهندية والباريسية والتركية ... كما تسمع نقر الدف .. وصوت الجاز .. تظل صاخبة إلى الصباح ..

ولكن حانة البحار السبعة كانت تختلف عن كل الحانات .. فهى هادئة فوق الربوة .. بعيدا عن صخب المدينة وكأنما أوجدتها الطبيعة فى هذا المكان .. لينعم بها الشعراء والفنانون .. وتصعد إليها التل فى طريق لولبى وتدخل من باب معرش ثم تدفع بابا آخر سحريا وتهبط ثلاث درجات .. إلى قاعة واسعة منخفضة السقف سميكة الجدران تتفرع منها ثلاث قاعات مستطيلة فى مثل جمال الأولى ..

وفى القاعة الرئيسية بار نصف دائرى .. وعليه يقف كبير السقاة تشن .. بقامته المنتصبة ووجهه البيضى .. وقد لبس صدارا أحمر .. وسروالا .. من نفس اللون .. وراح يحملق بعينين مضمومتين فى القاعة الساكنة وفى ربة الحانة مدام يات وهى سيدة بدينة سمينة الخدين فى الأربعين من عمرها ترتدى ثوبا أسود يصل إلى العنق .. وتنفق كل وقتها وهى جالسة هادئة لا تتحرك أمام البنك ..
ولكن عينيها لا تغفلان لحظة عن الزبائن والسقاة ..

وكانت جدران الحانة مزينة بالنقوش والزخارف الصينية وعلى صدر المنصة صورة لتنين هائل .. وعلى الرفوف الجانبية التماثيل الخزفية وأصداف المحار وصور زيتية رائعة لمعبد بوذى .. وتمثال دقيق الصنع لبوذا نفسه ..

وكان على أديم الأرض بساط أحمر يغوص فى سمكه القدم والمناضد .. والكراسى مكسوة بالقطيفة الحمراء أيضا وبلورات المصابيح مكسوة بالحرير الطبيعى فى لون العناب ..

وفى الصدر المواجه للمدخل صورة كبيرة لقرصان ضخم .. يحمل فتاة عارية بين ذراعيه .. ويسير بها على جسر السفينة .. متجها إلى المقصورة ..

وكان فى الحانة ثلاث فتيات من السقاة .. صينيات ناعمات البشرة صفراوات ولم يكن دميمات ولا جميلات .. ولكن مودتهن .. وابتساماتهن وثوبهن المشقوق عن الفخذين كان يرضى الزبائن ..

وفى الطرف الجانبى من القاعة باب صغير يؤدى إلى ممر متعرج يفضى إلى غرفة معتمة محجوبة عن الأنظار بستائر من المخمل ..
ووضعت على أرضها الحشيات اللينة من الريش والوسائد الناعمة ..

وفى هذه القاعة السحرية الخفيفة الضوء التى يحوم فى جوها البخور يدخن الرواد الأفيون فى صمت عميق ويستمعون إلى الموسيقى الهادئة ..

وكانت ربة الحانة ترعى هذا المكان السحرى بقلبها وعينيها .. وهى جالسة أمام البنك .. وترقب فى الوقت نفسه الفتيات يغسلن الأكواب .. ويمسحن الصحون بالمناشف ..

وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا .. وقد فتحت أبواب البنوك الكبيرة والمتاجر وبيوت المال فى هونج كونج .. وعادت الأقدام السريعة للرجال والنساء تهبط الكوبرى بعد أن تخرج من السفن القادمة من « كولون » .. وتتجه إلى قلب المدينة ..

وتحركت عربات الركشا الواقفة فى انتظارهم لتنقلهم إلى السوق داخل المدينة وإلى نزهة خلوية فى الضواحى وفى جولة على الربوة ..
وكان « لو » يقف بعربته الركشا على الجسر الثالث هناك فى مرسى البواخر يرقب الخارجين من السفن عن كثب .. ثم يحرك الركشا فى تؤدة إلى أن يجد الزبون فيدور به فى جولات سريعة فى شوارع كوين رود وشستر رود ..

وفى خلال جولاته يحادث الراكب بإنجليزية سليمة ليعرف وجهته ثم ينطلق به أخيرا .. إلى حانة البحار السبعة ..

وكان من طبع « لو » أن يجتذب الزبائن الذين يسعون وراء الأشياء الغريبة أو الذين يعذبهم الفضول ليكتشفوا الجديد .. أو الذين يحبون أن يشتموا رائحة العنبر .. وكل ما اشتهر به الشرق العجيب ..

وكان قد حمل إلى المكان عجوزا أوربيا فى نحو السبعين من عمره يدعى سميث قضى زمنا طويلا متنقلا فى البحار ثم جاء إلى هونج كونج ليعيش على هواه فى أحد فنادقها وكان يقضى النهار والليل فى الحانة ولا يكف عن الشراب وتدخين الأفيون ..

وكان قد شعر بوطأة الوحدة فى شيخوخته .. فأخذت الفتيات يؤنسن وحدته بالحديث والغناء والضرب على القيثارة وصاحبة الحان تدرك حاله كعازب فرغ من حياته .. وتخصه بعطفها ..

ولكن نظرته مع كل ما يحيط به من نساء وبهجة ظلت حزينة ..

وكان يخاف ويعاوده الخوف من الموت ويود أن يتزوج من صبية شرقية .. صينية أو يابانية أو هندية .. قبل أن ينفد أجله ..

* * *

وكانت الشمس قد أرسلت شعاعها الأصفر .. من خلال أوراق الأشجار .. ولكن سميث فى قبوه لم يكن يبصر شعاعها أبدا ..

وتهدج صوته وهو يقول للساقية :
ــ هل من سبيل يغنى عن الأفيون .. هل تتزوجيننى .. ياحلوة .. وسأجعل قلائد العقيق والماس والزمرد تغطى هذا الصدر الجميل ..
ثم بعد عشر دقائق كان يغط فى النوم على الأريكة ..

وسمع صياحا وجلبة فاستيقظ وكان ثلاثة من البحارة قد نفذوا إلى المكان وهم سكارى فجلسوا يشربون ويغنون .. ويجذبون إليهم الفتيات ليرقصن معهم .. ولم تكن من عادة البحارة أن يأتوا إلى هذا المكان أبدا ولم تكن ربة الحانة تحب وجودهم .. لأنهم يثيرون العراك والصخب .. والعراك يستدعى تدخل البوليس وهى لا تحب أن يدخل البوليس المكان .. وتود أن تظل الحانة على مستوى عال للخاصة والقلة المختارة من السائحين التى تعشق الهدوء قبل أى شىء آخر ..
واحتارت ماذا تفعل ..؟
وكان تشن يود أن يتدخل ولكنها منعته .. وظل فى مكانه ..

ورأى مستر سميث الحمرة على وجهها وكان قد خرج إلى القاعة على صوت البحارة فتقدم إليهم ليهدئهم بإنجليزيته الناعمة .. ولكنهم ازدادوا هياجا .. وأمسكوا به ليضربوه ..

وفى اللحظة التى تصور معها الرواد أن سقف الحانة سيسقط عليهم .. دخل « لو » .. وأمسك بالبحارة الثلاثة وقذف بهم إلى الخارج وهناك أوسعهم ضربا وبدت قوته كمارد جبار .. وهو يصارع الثلاثة ويطاردهم وأخيرا فروا مذعورين .. وكانت ربة الحانة تتوقع عودة البحارة الذين ضربوا ومعهم بحارة السفينة جميعا .. بعد ساعة على الأكثر لينضموا لرفاقهم ..

ولهذا طلبت من لو .. أن يبقى فظل قريبا من المكان .. ومنذ تلك اللحظة أصبح قريبا من قلبها .. وخصصت له القبو لينام فيه ..

* * *

وأسدلت الستائر المخملية على المكان كله وأطلق البخور وأضيئت المصابيح الصينية كأنها قناديل من الزيت فى صحائف من الدر .. وكان ضوؤها يضفى على المكان جوا من السحر الحالم وبرزت للمشاهد من وراء الطاقات الصغيرة أشجار السرو والتين والبرقوق .. وتجلت غصونها المتموجة فى ضوء الشمس الباهر ..

ووفد على المكان بعض من السائحين والسائحات وابتدأت الموسيقى تعزف ألحانا راقصة ..

وخرج الراقصون والرقصات إلى باحة مسقوفة بأوراق الشجر .. ودار الرقص .. وظلت الموسيقى تصدح بالأنغام الشجية .. وكأنها تنوح على ما حاق بالإنسان .. من عذاب عبر القرون ..

واختلطت رائحة العطر .. برائحة التبغ والبخور .. والأفيون وذلك الأريج المنبعث من الحديقة ..
ولم يحول سميث عينيه عن عين فتاة بيضاء جميلة أطلقت العنان لساقيها .. وكانت تضع ذراعها على كتف مرافقها وتنثنى فى رشاقة وهى ترقص ..

وكان يلمح أحيانا طرف قميصها التحتى وهى تتطاير من دورانها السريع .. واختلطت الأحاديث والضحكات بالأقدام .. فى المرقص ..
وكانت الساعة قد أشرفت على الواحدة بعد الظهر ..

وبدأت قاعة الرقص تموج بالراقصين قبل فترة الغداء وأخذت الفرقة الصينية تعزف موسيقى صينية خفيفة ..

وكان العازفون الثلاثة فى قمصانهم الحمراء الزاهية الواسعة الأكمام وعلى رءوسهم الطواقى الحمراء بالزيق الأبيض والأصفر ..
وينتثى الزبائن بما شربوا من الخمر .. وتحمر وجوههم ..

ولكن ما من واحد منهم يتحرك من مكانه .. وكان الهدوء يخيم على المكان .. والبخور والسحر الصينى وجو القاعة كله يجعلهم يجلسون ذاهلين عن أنفسهم ..

وساعات النهار التى تعقب فترة الغداء كانت تمر بطيئة متثاقلة وكانت ربة الحانة تغفو فى خلالها ساعة واحدة .. ثم تشير برأسها إلى الفتيات فيتحركن .. ويأخذن فى مسح الأوانى والأكواب والصحون وتلميع كل شىء .. ووضع الزهريات الخزفية فى مكانها .. وهصر الستر .. وادخال الشعاع السحرى فى عينى التنين ..

وكانت شمس أكتوبر الحارة يعقبها المطر الخفيف فى كثير من الحالات ولكن رواد الحانة كانوا لا يحسون بشىء من هذا كله . ففى هذا القبو المظلم .. المنقطع عن الحياة .. توجد دنيا أخرى بهيجة وحالمة ..

وخلال الوجبات .. كانت تقدم الأكلات الصينية .. الشوربة وفيها تسبح الكرشة .. ولحم الطيور والسمك والمحار .. والأوز .. المخلوط بلحم العجول .. ثم البط القادم من بكين ..
وفى خفة ورشاقة تروح الفتيات ويجئن حاملات الصحون .. وسيقانهن العارية تبدو من خلال ثيابهن المشقوقة من الجانبين كأنها تطلب المزيد من الحرية ..

ثم تتحرك فتاة وحيدة وتدور على الموائد حاملة على صدرها صندوق السجائر .. وتنادى بصوت رخيم ..
ــ سجائر .. شكولاتة ..

فإذا أشار اليها أحد الرواد .. انحنت عليه برأسها وقربت شفتيها لتلقط ما يقول ..
وتحرك يدا رخصة وتخرج علبة أنيقة مغلقة ..

ويلقى إليها بالدولارات من غير حساب فتنحنى عدة مرات وهى باسمة .. ثم تتحول إلى مائدة أخرى ..

وفى خلال الفترة التى بعد الظهيرة .. كان يهوم شىء أشبه بالنعاس على الحانة ..

وكان « لو » يريح الركشا تحت ظل الأشجار .. ويدخل الحانة ليشرب كأسا .. ويجلس إلى منضدة كأنها أعدت له وحده ولم يكن غيره يقربها ..

وكانت الفتاة تضع له الكأس صامتة دون أن تتحرك شفتاها بحرف .. ويرفعه فى جرعة واحدة .. وهو يرمق المدام صاحبة البار بعينين نديتين .. ويسترخى مرسلا بصره إلى السقف .. والى الرسومات على الجدران ..

والساقية تقطع عليه أحلامه مرة أخرى وتضع أمامه صحنا من الأرز المخلوط بلحم البقر .. فيحرك العصوين .. فى الحال .. وتبرز طباع الصينى الأصيل فى هذه الأكلة الشهية ..

وكان يرسل وهو يحرك فكيه تحية خالصة لربة الحان التى أرسلت له الطبق فوق الحساب ..

وتبدو فى هذه اللحظة سنتان من الذهب فى الصف العلوى من أسنانه وهما تلمعان .. ثم يطبق فمه على سيجارة وبعد أن يدخنها ويستريح قليلا .. ينطلق بالركشا كالسهم .. إلى الميناء ولم يكن هناك من يعدو فى مثل عدوه .. كان سريع العدو طويل العود أطول من تقع عليه العين فى هونج كونج .. وأشد الرجال ساعدا ..
وكان كل الناس يعرفونه ... ويكلفونه بأشياء ..
ــ هات لى جريدة جنوب الصين .. يالو وأنت راجع ...
ــ أرسل هذا فى بريد كولون يالو .. أرجوك ..
ــ أعط .. هذا لمستر هنرى .. يالو .. فى بنك الصين .
وكان صف عربات الركشا يقف قريبا من الميناء ..
وأصحابها يقطعون على المارة الطريق فى رذالة ويجبرونهم على الركوب .. ولكن « لو » .. يقف صامتا حتى يتقدم إليه الراكب .. فيتحرك بأدب .. ويسأله عن وجهته ..

وكان الذى يركب دون أن تكون له وجهه معينة يتجه به إلى الحانة بعد جولة قصيرة فى المدينة ..

ولم يكن من طباعه أن يشتط فى الأجر .. فالدولار فى يده كالثلاثة .. المهم أن يأتى براكب جديد ..

وكانت عربته إذا قارنتها بسواها من العربات أنيقة وكرسيها مريحا ومغطى بالقطيفة .. وكان أكثر السائحين يختارونها لأناقتها ولأن لو يعتبر بمثابة الحارس لهم فى جولاتهم فى غابات هونج كونج وأحراجها .. وشوارعها المتعرجة ودروبها الطويلة ..

* * *

وفى أمسية من أمسيات السبت وكان واقفا فى مكانه على رصيف الميناء .. لمح سيدة ورجلا أوربيين يهبطان سريعا من الكوبرى الخشبى ويخرجان إلى الرصيف ..

ومرا بجواره .. فحرك العربة ثم ردها إلى مكانها ... لما لاحظ أنهما مترددان فى الركوب .. ثم ركبت السيدة الركشا وهى تقول شيئا بالإنجليزية وتبعها الرجل ..

ودار بهما لو فى المدينة فى شارع شستررود وكوين رود .. وسرت السيدة من المحلات الأنيقة ومن اللافتات الصينية وبالحروف الكبيرة على الواجهات . وفى الجوانب وكانت المدينة مزدحمة بالمارة والناس يتحركون فى سرعة وخفة .. وبدأ الصينيون أمامها قصار الأجسام قصار الخطو .. وأعجبت بهم فى الزى الصينى أكثر من إعجابها بهم فى الزى الأوروبى ..

وأبدت رغبتها فى أن ترى الهضبة .. وصعد بهما لو إلى الترام الصاعد ..

وبعد ساعة رجعا من جولتيهما وهبطا من الترام فأخذهما « لو » على التو إلى الحانة وكان الليل قد هبط وأضيئت المصابيح .. ولهب أحمر يندفع من فوق الربوة .. وظلال الأشجار الطويلة تتراقص حول الركشا ..

وكان لهب الشعلة الأحمر يدور فى الميناء والركشا تسير فى طريقها ولاح فى الأفق وهج أضواء مشتعلة تلقى ظلالها المتراقصة على أعلى مكان من الربوة ..

وتطلع الراكبان إلى السفح حيث تسبح المدينة فى بحر من الزمرد .. كانت الأضواء تتراقص فى الماء .. وتتلوى على صفحة الخليج الهادئ ثم تمضى مذعورة كأنها حيات طويلة قد اشتعلت فى ذيلها النار ..
وكانت كل الألوان الزاهية .. تتألق من المصابيح على السطح وفى التلال ..
وكان المنظر يحير الألباب ..

وسألت السيدة هيلين سائق الركشا :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لو ..
ــ قف بنا لحظة يالو .. ما أجمل المنظر ..
ــ إن هذا المنظر يبدو أكثر جمالا من كالون ..
ــ حقا ؟
ــ بالطبع يا سيدتى سترين من الشاطئ المواجه جمال هونح كونج كله يتألق أمامك .. والهضبة تتوهج كأنها عقد كبير من الماس ..
ونظر لو إلى قلادة الماس على صدر السيدة ..

وقالت وهى تحرك يدها على القلادة كأنها تتأكد من وجودها ... فقد حذروها منذ هبطت المدينة من النشالين ومن أن تتركها فى الفندق ..
ــ ماس .. تمهل يالو .. ما أجمل ما حولنا .. أى منظر ..
ولما وقفت الركشا على باب الحانة كانا قد سكرا من المنظر ..

* * *

وكان لو رجلا وديعا هادئا .. وقد تناول ما قدمه له السائح .. وهو يحنى رأسه وينظر بإعجاب إلى المرأة التى بلغت الغاية فى الرقة والجمال ..

وكان السائحان زوجين من أواسط أوروبا يطوفان بالعالم .. وحطا الرحال بهونج كونج على أن يقضيا فيها شهرا أو شهرين ثم يتجهان إلى الهند فى الشتاء ..

وكان الرجل مهذبا دمث الخلق سمينا بعض الشىء .. أحمر الخدين ...

ولما وجد الحانة هادئة سر منها .. وكان يود أن يتناول عشاء صينيا خالصا أكثر من رغبته فى الشراب ..

وكانت الحانة فى الواقع مبتغى العشاق .. عشاق الهدوء وعشاق الطعام الصينى .. ويقصدها الذين ينشدون الهدوء والسكينة ولذة الغيبوبة التى تصيب الحواس ..

وهونج كونج الميناء التى تموج بالسفن .. والتى تبدو شوارعها فى كل الساعات فى أشد حالات الزحام والحركة ..
كانت تنتهى حركتها تماما إذا صعدت التلال ..

وتبدو الحانة فى كل الأوقات هادئة لا تحس بشىء مما يجرى حولها ..
وكان الهدوء قد جذب السيدة أكثر مما جذب الرجل ..

ولما دلتهما الساقية الصينية على القاعة السحرية .. دخلا وجلسا على الحشيات .. ووضعت السيدة البيبة بين شفتيها ودخنت لأول مرة الأفيون .. وأحست بلذة عارمة ..
ولما خرجت فى آخر الليل كانت تود أن تبقى إلى الصباح .

* * *

وبعد أربعة أيام .. جاءت فى الليل وحدها .. لم يكن فى صحبتها الزوج ..

ودخلت القاعة السحرية .. وتعرف إليها شاب صينى .. فظل معها إلى بعد منتصف الليل .. ثم ركب معها سيارة إلى الميناء .. وهناك رآها « لو » وهى تعبر الخليج .. فى صحبة الشاب .. إلى كالون..

وكان الشاب يرمى من عبوره معها الخليج أن يرافقها إلى فندقها إذ لم يكن من اللائق أن يترك سيدة وحدها فى الليل .. ولكنه راوغ فى الطريق كالثعلب .. وأخذها عندما أحس بأنها منتشية ومسلوبة الإرادة من فعل الأفيون إلى غرفة فى فندق رخيص وقضى معها ساعة ..

ولما خرجت من الفندق تفقدت قلادتها فلم تجدها .. فأدركت أن الشاب سرقها ولوعها الحزن .. وكتمت الخبر .. عن زوجها ..


وفى الصباح التالى زاد ارتباكها ..

وتحيرت ماذا تفعل وظلت حزينة .. ثم قالت لزوجها إنها ذاهبة فى جولة وحدها لتتسوق بعض الأشياء ..

ولما عبرت الخليج وجدت لو فى مكانه على الرصيف .. وكانت تود أن تحدثه عن ضياع القلادة .. ولكنها لم تستطع ..

ولما نظر « لو » إلى صدرها عاريا ولاحظ اضطرابها وشحوب لونها .. خمن أن شيئا حدث لها مع الشاب ولكنه لم يستطع أن يتكلم ..

ولكن نظرات المرأة إليه أشاعت اللوعة فى نفسه فقد كانت تستغيث به فى صمت وعذاب قبل أن تشيع الفضيحة ويعرف زوجها الخبر .. ويعلم بسقطتها وأدرك بذكائه وتعرفه على خفايا المدينة كل ما حدث ..

* * *

ولم يشاهد لو فى الحانة ولا الميناء قرابة شهر انقطعت أخباره .. ثم ظهر فجأة كما غاب فجأة ..

وكان يجر عربة الركشا بذراع واحدة .. وظهرت القلادة على صدر الزوجة الحسناء ..

ولكن أحدا لم يعرف السر .. ولم يعرف أن لو هو الذى أعادها للسيدة الشابة بعد معركة رهيبة فى ظلام الليل .. فقد بسببها ذراعه ..
=================================
نشرت فى صحيفة أخبار اليوم فى 28/10/1961 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================


بائع الصحف ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


بائع الصحف
قصة محمود البدوى

ذهبت إلى « هونج كونج » فى الصيف الماضى فى رحلة بهيجة تثلج القلب على متن إحدى الطائرات النفاثة .. وكانت تشق الفضاء فى سرعة الصاروخ .. وكل من أعرفهم قد حذرنى من عربة « الركشا » ومن الادلاء فى مدينة الأعاجيب ..

ونزلت فى فندق صغير فى شبه جزيرة « كولون » لهدوئه وقربه من المطار وبين مدينة « كولون » وهونج كونج بوغاز تعبره البواخر فى نزهة بحرية منقطعة النظير نزهة بين أجمل مناظر الطبيعة وفى أبدع ما خلق اللّه وصنعت يد الإنسان وتجمع هذه البواخر فى ذهابها وإيابها خليطا من كل أجناس الأرض ندر أن يجتمع مثله فى مكان آخر ..

وهى مع كثرتها ودقة مواعيدها مزدحمة دوما بالركاب العابرين ويبلغ الزحام أشده قبل التاسعة صباحا وبعد الخامسة مساء .. حيث ينحدر سيل الموظفين الخارجين من البنوك والمحلات الكبيرة إلى الميناء حتى يسدون كل منافذ الكوبرى المعلق المفضى إلى الطريق ويتدافعون عليه بالمناكب من هول الزحام ..

والسائح النازل فى « كولون » لا يستغنى أبدا حيث جمال الطبيعة فى التلال الزمردية والهضاب الشهباء وحيث الذهبية العائمة فى سواحل « ابردين » وصيد السمك فى خليج « استانلى » ..

ولهذا كنت أعبر البوغاز فى كل صباح وأذهب إلى « هونج كونج » فأجلس فى مشرب من مشارب الشاى فى " كوين رود " قريبا من بنك الصين أتأمل حركة السيارات والمارة من كل بقاع العالم وأطالع الصحف والمجلات الإنجليزية كما أقرأ الجريدة المحلية .. التى تصدر فى هونج كونج باسم " جنوب الصين " .. وكنت أبتاع هذه الصحف من بائع صينى عجوز مقطوع الساق كان يتخذ له مكانا مختارا تحت الباكيه ..

ووقع فى تقديرى أنه خاض غمار الحرب العالمية الثانية .. عندما غزا اليابانيون المدينة واكتوى بنارها ففقد ساقه .. وكان الرجل يركز عصاه على جدار البنك .. ويجلس متنبها يقظاً لكل حركة فى الطريق .. وبجواره صف من ماسحى الأحذية وأمامه على الرصيف الآخر طابور من عربات " الركشا " التى تتحرك إلى قلب المدينة أوتنطلق إلى الهضبة ..

والفيت الرجل رغم العجز الذى أصابه ضاحك السن أبدا مرحا شديد الحيوية ويتحرك بعكازه كأنه يعدو على قدمين من فرط ما فيه من نشاط وصحة ..

كما أن جواره للبنوك جعله على دراية بالعملات الأجنبية فكان يبيع الصحف بالدولار الأمريكى والجنيه الإسترلينى والروبية الهندية والينات اليابانية .. والفرنكات السويسرية والفرنسية ..
ولم يكن يرفض أى عملة على الإطلاق ..

وبدا لى من شخصيته المهيبة أنه هو الذى يحرك عربات الركشا ويمسك خيوطها ..

وجعلتنى ساقه المقطوعة أعطف عليه فكنت أشترى منه الصحف والمجلات بدلا من شرائها من " كولون " .. كما فى كثير من الحالات أترك له الفكة الصغيرة وأمنحه علب السجائر المصرية إذ كان يدخن بنهم ..

ولم يكن من عادتى أن أركب الركشا ولا الترام لأنى أحب السير على قدمى فى المدينة .. لأعرف كل شىء فيها وأدخل فى منعرجاتها ودروبها .. وأشاهد المتاجر وأرقب حركة الناس عن كثب ..

وكانت تشوقنى حركة المدينة السريعة فى العربات والسيارات والناس ونشاط أهلها العديم النظير ..

* * *

وكان فى جيبى شىء جعلتنى الظروف ألا أتركه فى الفندق .. وأدور به أينما حللت إذ كنت أحمل عقدا من اللؤلؤ الخالص اشتريته لوالدتى من طوكيو ..

وخشيت لو تركته فى الفندق أن يستبدل بعقد زائف ولا أستطيع أن أميز بين الزائف والصحيح أبدا .. أو أن يسرق وهذا أسهل الأشياء حدوثا ..

ولشدة اهتمامى به وحرصى عليه ولصوقه بجيبى .. كثيرا ما كنت أنساه .. فى أحوال ومتعددة ، كما ينسى المسافر حقيبة نقوده فى سيارة أجرة أو فى عربة القطار فإذا تذكرته انخلع قلبى هلعا .. ثم أتحسسه وزيادة فى التأكيد أخرجه من جيبى بطابع الوسوسة لأنظر فيه ثم أعيده إلى مكانه .. وأنا أتلفت حولى خشية أن يرانى أحد النشالين ... فيتبعنى ..ولما كنت مشوقا لأن أصعد الهضبة فى الليل وأركب الترام الصاعد . فقد اخترت أول الليل لهذه الرحلة.. لأنى سمعت كثيرا عن حوادث السطو فى الغابة ..

وقضيت فى المدينة الجميلة أسبوعين وأنا أرى فى كل يوم منظرًا ساحرًا جديدًا .. وشيئا غريبا لاتقع على مثله العين فى أى مكان ..

وكان أكثر ما يسرنى أن أقف أمام الأعرج أتناول منه الصحف .. وأجاذبه الحديث وأنا شاعر بالصفاء وبمودة القلب .. وبالإخاء الإنسانى الفطرى الذى فى كل البشر ..

ولم أكن أدرى أين مضجعه .. أيسكن فى " كولون " أم فى ضواحى هونج كونج " .. ولكن فقره كان ظاهرا للعيان ويعيش بقوت يومه وما سمعته يشكو من شىء أبدا .. ولما علم أننى فلاح مصرى حثنى على أن أشاهد الريف فى القرى المحيطة " بهونج كونج " وأذهب إلى " لوو " .. لأرى الفلاح الصينى هناك كيف يحرث الأرض ويزرع الحب على ماء المطر ..

* * *

وذات ليلة .. وكانت الساعة قد بلغت التاسعة .. وحركة السابلة فى الطريق قد خفت قليلا .. واللافتات باللغة الصينية وبالحروف الكبيرة المضاءة بالنيون تغطى واجهات الحوانيت ..

والمطاعم الصغيرة تعرض فى المدخل ما عندها من صنوف الطعام ..

فرأيت صحاف الأرز الكبيرة والمرقة تسبح فيها الكرشة .. ولحوم العجول والطيور فى أطباق صينية واسعة ..

لاحظت خفة الحركة فى الطريق والرجال فى الحلل الأوربية أو الصينية والنساء فى الجيوب المشقوقة والبلوزة الحريرية الحمراء .. وكان اللون الأحمر يغلب على كل الألوان وجذب انتباهى لافتة صغيرة مضاءة باللون الأحمر .. فى مدخل طويل على جانبه صف من الدكاكين الصغيرة التى تبيع القداحات والعطور والمراوح وتماثيل الخزف والعاج صف منسق .. كأنما وضع تصميم هذه الحوانيت رسام بارع .. وكان نصف الحوانيت مضاء والنصف الآخر .. قد أغلق أبوابه ..

ووجدت نفسى تحت اللافتة وأمام ستار حريرى مضفر فدفعته ودخلت فى سكون فى حجرة شاحبة الضوء وكان البخور يعبق فى جو المكان وموسيقى خفيفة تصدح ..

ونقر أشبه بنقر الدف ولكنه يأتى من فوق .. وليس فى المكان ..

ووجدت نفسى بعد نصف دقيقة أتسمر على كرسى خشبى .. وأخرج ستة دولارات من عملة هونج كونج .. وأمد يدى لقارئة الكف .. الصينية العجوز .. وكان بجوارها فتاة تابعة لها .. ورجل يتحرك من وراء الستر هناك ولكنه لم يظهر ولم أر طلعته قط ... فى مدى النصف الساعة التى قضيتها فى المكان .. وقالت لى العجوز كلاما غامضا عن المستقبل والحياة .. فى جو كله سحر وغموض .. ولكننى استرحت إليه جدا ..

وكانت رائحة البخور تزداد حتى أننى أحسست بالاختناق ..
فنهضت فى ثقل وانسحبت إلى الخارج ..

ولما عدت إلى الطريق التى دخلت منها وجدت كل حوانيتها قد أغلقت والظلام يبسط رواقه .. فشعرت بالخوف .. وتحت باكية لمحت نصلا يلمع فى وجهى فجريت مفزوعا حتى بلغت الشارع الرئيسى وأنا ألهث ..

وسمعت صوتا .. وحركة أقدام سريعة خلفى وعراك لم يستمر طويلا ..

وخيل إلى أننى سمعت صوت الأعرج وحركة عكازه على الأرض ..
ولما تلفت لم أجد أى شخص ..

* * *

وفى ليلة من ليالى السبت وكنت قد تجولت طويلا فى « هونج كونج » عبرت البوغاز على باخرة حالمة وأنا شاعر بالتعب والنعاس ..
ولما بلغت الفندق تفقدت عقد اللؤلؤ فلم أجده ..

فرغم حرصى الشديد نشل منى بطريقة جهنمية .. وتألمت غاية الألم .. حتى إنه لم يغمض لى جفن فى تلك الليلة ..

وفى الصباح شاهد " الأعرج " ما على وجهى من حزن .. فتصور أنى مريض .. وسألنى عن حالى ..
ولما كان قلبى مثقلا بالغــم .. فقد رأيت أن من الخير لى أن أقص على الرجل الخبر لأنفس عن نفسى .. وأسأله إن كان من الأوفق أن أبلغ البوليس ..
ولما أخبرته تغير لونه وتألم ..
ثم قال :
ــ لا عليك .. إنه فداك ..
ــ أليس من الأحسن أن أبلغ البوليس .. ؟
ــ وما الذى يفعله .. فى مدينة كهذه تعج بالنشالين .. ؟ ربما كان العقد الآن فى جيب أحد المسافرين إلى نيودلهى أو بانكوك ..
ــ أتقصد أن النشال باعه .. ؟
ــ بالطبع .. وبأ سرع مما تتصور ..
وزاد هذا من حزنى وفقدت الأمل كلية ..

ومرت أربعة أيام وكلما ركبت الباخرة إلى « هونج كونج » وعبرت البوغاز .. ورأيت اللافتات فى كل مكان بالإنجليزية تحذر من النشالين زاد غيظى ..

ولما انتويت السفر يوم الخميس التالى .. فقد ودعت الأعرج .. فى مكانه تحت الباكية وعانقته ..

وفى صباح يوم السفر وأنا خارج من بهو الفندق وأهم بركوب السيارة إلى المطار .. وجدت الأعرج يتوكأ على عكازه .. كان فى انتظارى ..

وعجبت كيف عرف الفندق الذى أنزل فيه وما حدثته عنه قط .. ولكن عجبى الأكبر كان عندما مد لى يده بشىء مطوى فى علبة ..
وقال باسما :
ــ لقد جئت بهدية صغيرة وأرجو أن تقبلها ..

ولما لمحت نفس العلبة التى سرقت منى ارتجف قلبى ..
وتناولتها ... وفتحتها .. فوجدت عقد اللؤلؤ ....

واخضلت عيناى بالدمع وأنا أنظر إلى الرجل صامتا وما أستطيع أن أنبس بكلمة شكر وكان هو معتمدا على عكازه فى هدوء وعلى وجهه السكينة وكأنه ما فعل شيئا ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 23/4/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من هونج كونج "
من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
======================================


السفينة الذهبية ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


السفينة الذهبية
قصة محمود البدوى

بيتنا فى بورسعيد ، وعندما وقع الاعتداء علينا فى سنة 1956 كنت بعيدا بآلاف الأميال عن الأهل والوطن .. كنت هناك فى مدينة " هونج كونج " ..

وقرأت الخبر فى جريدة ( جنوب الصين ) وأنا أعض على النواجذ .. فأنا بعيد جدا عن جو المعركة ولا أستطيع أن أفعل شيئا من أجل وطنى .. وليس فى إمكانى أن أطلق رصاصة واحدة فى صدر الأعداء ..

وقدر علىَّ أن أكون سائحا يتنزه ووطنى تشتعل فيه النار .. فما أشد العذاب ..

ولكن الشرارة أصابتنى من بعيد فقد انقطع عنى المال ..
ولم يكن فى جيبى غير دولارات قليلة ، لا تعيشنى أكثر من عشرة أيام إذ كنت فى نهاية أكتوبر أنتظر المدد من بورسعيد لأرحل .. وهأنذا أصبحت بتصاريف القدر وحيدا شريدا فى هذه المدينة وما أعرف إنسانا فيها يمدنى بسنت واحد فكيف أعيش .. ؟؟

وفكرت فى تغيير الفندق الذى أقيم فيه فى الحال .. وكان يقع فى جزيرة ( كولون ) والبحث عن أرخص فندق فى " هونج كونج " إذ أن الفنادق فيها أرخص ..

وعبرت الخليج فعلا والساعة تتجاوز العاشرة صباحا .. وسرت فى شارع ( دى فو ) متمهلا متطلعا إلى اللافتات .. والناس فى حركة سريعة نشطة على الرصيف كأنهم سيلحقون آخر قطار ..

وظللت أسير حتى اقتربت من سوق الخضار وأصبحت اللافتات كلها مكتوبة باللغة الصينية وعجزت عن فهم حروفها ..

وكان الجو حارا وخانقا لشدة الرطوبة وأحسست بالعرق فى يدى على مقبض الحقيبة .. فوقفت ألتقط أنفاسى وأعرف مستقرى .. بعد أن تبينت أننى دخلت فى أزقة ملتوية أشبه بأزقة ( أبردين ) ..

وكان أصحاب الدكاكين يتصورننى بائعا جوالا .. فأخذوا يسألوننى فى كل خطوة عما أحمل .. فكنت أجيبهم بأنى مجرد عابر سبيل ..

وأخيرا وجدت لافتة مطموسة على باب ضيق .. ودخلت فى طرقة معتمة ملتوية .. وكلما تقدمت خطوة شعرت بالظلام يزداد كثافة .. مع أن الشمس كانت طالعة .. وأحسست بالخوف من شىء جعلنى أفتح عينى جيدا وأحس من فرط الفزع بضربات قلبى كأنها ضربات آلة قوية ..

وصور لى الخيال المحلق الفنادق الرهيبة التى تحدث عنها " ادجار الن بو " فى قصصه وتصورت هذا واحدا منها .. ظل قائما عبر السنين فى هذا المكان .. وازداد رعبى فوقفت تماما لأستدير وأعود ..

وهنا سمعت صوتا بالإنجليزية .. صوتا خافتا خيل إلىَّ أنه ينبعث من أعماق جب .. ولكنه كان على أى حال صوت إنسان وتبع الصوت خطوات بطيئة لينة فى اتجاهى ..

وكان أول شىء رأيته فى وجه الشخص الذى استقبلنى فمه المفتوح عن سنتين ذهبيتين .. ثم ملامح صينية خالصة .. واستقبلنى الرجل ببشاشة .. وإن كانت عيناه ظلتا لمدة نصف دقيقة مفتوحة وتنظر إلىَّ بعمق وكأنها تنظر لتعرف فى لحظات خصائصى كمخلوق بشرى ..

ومن حديثى القصير معه تبينت طيبة نفسه وكانت كل التصورات السابقة مجرد أوهام سبحت فى عقل مرعوب .. وفى دقائق أعاد إلىَّ السكينة المطلقة .. وأعطانى مفتاح غرفة رخيصة بسبعة دولارات هونج كونجى فى اليوم ولم يطلب دفع شىء مقدما ..

وكانت الغرفة فى الطابق الخامس ولا يوجد مصعد فى البناية ولكنى رضيت بها ولم تكن نافذتها الخلفية الوحيدة تطل على شىء بهيج .. على أن الغرفة على صغرها كانت بالغة الحد فى النظافة ..

وكان فى الجناح الذى أقيم فيه ست غرف على صف واحد .. ألفيت أبوابها كلها مغلقة ولا تدل على وجود سكان ..

ولم يكن الفندق مستعدا للطعام فكنت آكل فى المطاعم الشعبية الرخيصة المزدحمة بالعمال والحمالين وسائقى عربات الركشا وما كنت أفهم حرفا واحدا من حديثهم ومنهم من كان يرافقنى فى مائدة واحدة ..

ولكن وجوههم تبدو على اختلاف السحن متآلفة ويربطهم الرباط الذى يضم الفقراء والتعساء فى العالم ..

* * *

وكنت متلهفا على أخبار بلادى ولكنى أعيش فى مستعمرة بريطانية فكيف تصل إلى الحقيقة .. ؟؟

لم أكن أقرأ إلا جريدة ( جنوب الصين ) وكانت معظم برقياتها من رويتر ووكالة طوكيو للأنباء .. وعشت فى دوامة .. ولكننى ألفيت نفسى بعد عشرة أيام من الآلام المضنية أتحمل الموقف فى صلابة وأترك الأيام تجرى فى أعنتها ..

ولم أكن أقدر الهوان قط .. وظلت قاهرة المعز بمساجدها وكنائسها وقبابها ، وقلاعها .. وحصونها .. شامخة وعالية وجبارة .. ولن يقهرها أحد ..

ولم تهتز الصورة فى ذهنى أبدا .. بل ظلت متألقة وحية ..

وكنت أتحرك باعتدال وأحاول الاقتصاد فى كل خطوة .. وأبتعد عن جو الملاهى والمواخير وعن النساء ..

وخلال الساعات القاسية التى تحس فيها النفس بالموات .. كنت أذهب إلى ( كولون ) أو أتجول حول عربات الركشا التى تتقاتل على السائحين .. أو أذهب إلى الميناء وأقف على الرصيف أشاهد البواخر الضخمة وهى تفرغ حمولتها من الطرود الثقيلة أو تحمل بمثلها .. والعمال على الآلات الرافعة يبدون من بعيد كالعصافير ..
والميناء تتحرك كخلية النحل حركة جبارة ..

كان المنظر كله يشوقنى .. عرق العامل وزيت الآلات ودوى المحركات .. وصياح العمال وصفير البواخر .. كأن الدنيا لا تستريح ساعة ..
وكانت هذه التجولات تنسينى وحدتى ومتاعبى ..

* * *

وفى كل صباح كنت أحصى الدولارات التى فى جيبى قبل أن أخرج من غرفتى ..
وكان ذهنى يتفتق فى كل ساعة عن مخرج لحالتى ..

ففكرت أن أشتغل فى أحد البنوك وما أكثرها فى المدينة .. أو فى متجر وأنا أجيد الإنجليزية والفرنسية فإذا ضاقت بى سبل العيش سأشتغل ملاحا فى سفينة حتى أصل إلى ميناء عربى ..

* * *

وذات ليلة لمحت وأنا أدخل غرفتى رجلا طويلا يدير المفتاح فى الغرفة الملاصقة لى .. وكان أول ساكن أراه فى الجناح الذى أقيم فيه .. وأعطانى ظهره فلم أتبين ملامحه ..

* * *

ومرت أيام قليلة وبدأت أشعر بالفراغ والضيق .. ولم تستطع مباهج المدينة أن تمسح لوعتى .. وكتبت رسالة لأهلى لأعرف أحوالهم ولكننى لم أتلق ردا ، وأصبحت أحتبس فى غرفتى بعد أن كنت لا أطيق البقاء فيها ساعة ..

وبدأ الخوف من الجوع يعاودنى بشكل يثير الرعب .. فقد طرقت كل أبواب العمل فلم أوفق إلى شىء قط ، سدت الأبواب فى وجهى .. وغدت كل الوسائل التى فكرت فيها من قبل كمورد للرزق مجرد أحلام ذهبت مع الريح ..

* * *

وأصبح المال القليل الذى تبقى معى هو بمثابة حياة لى .. ولهذا حرصت على أن أحمله ولا أتركه فى غرفتى لأنى كنت أعرف من سفرى الطويل لصوص الفنادق ..

وقد جعلنى الاقتصاد فى النفقات أتعشى فى غرفتى حاملا معى فى كل ليلة أرخص الأطعمة فى السوق .. وبعد العشاء كنت أخرج إلى بهو الفندق لأشرب القهوة وأستمع إلى الموسيقى الصينية التى تذاع فى الراديو ..

وفى كل الحالات كنت أجد نفرا من النزلاء جالسين حول موائد متباعدة يشربون الخمر .. ولكنى لم أكن أختلط بأحد منهم .. وشاهدت جارى الذى رأيته من قبل وهو يدخل غرفته .. يجلس هناك فى الركن ويشرب وحده ..

وبدا لى من جلسته ، فارع الطول ، نحيفا وعروقه بارزة من عنقه وكانت صفحة وجهه إلى ناحيتى فبدت التجاعيد وخطوط السن .. وبشرته البيضاء الناعمة التى لوحتها الشمس كثيرا ..

وكانت عيناه ضيقتين وساكنتين ويظلهما هدب غزير أشهب كشعره كله ..

ومن ملامحه قدرت أنه أوروبى أو أمريكى لف الدنيا ثم حط رحاله فى هذه المدينة ..

وكان قليل الكلام مع الفتاة التى تقدم له الخمر .. وبدا من سكون جوارحه أنه شرب فى هذه الليلة كثيرا ..

وظل يشرب حتى انصرف النزلاء إلى حجراتهم .. وبقى وحده ..

وخرجت لأشترى علبة سجائر ولما عدت كان يصعد السلم أمامى إلى غرفته .. وظهر من حركات رجليه أنه لا يكاد يتماسك وكان يسقط فعلا فسندته بذراعى وظللت معه حتى أدخلته غرفته وشكرنى بحرارة على الباب ..

وأصبحنا نتلاقى بعد ذلك كثيرا .. فى الطريق .. وفى الميناء .. وعرف اسمى .. ولما سألنى عن جنسيتى قلت له إننى " تركى " .. وخشيت أن أقول له أننى مصرى لأننى حسبته إنجليزيا ونحن فى حالة حرب ..

ثم تبين لى أن الرجل لا يهمه من أكون وأنه فرغ من الدنيا ويعيش على هامش الحياة جواب آفاق ..

فقد رأى الهند .. والصين .. واليابان .. وأخيرا حط رحاله فى هونج كونج .. ولا يدرى إلى متى سيبقى ..

* * *

وفى مساء اليوم التالى بدا منشرحا مرحا وأخذ يفيض بمرحه على كل من يقابله فى البهو ..
وسألنى :
ــ هل أنت تاجر .. ؟
ــ أجل .. وجئت لأشترى صفقة من الحرير الصينى ..
ــ وهل تشترى الماس .. ؟
ــ إذا كان نادرا ..
ــ لدى قطعة نادرة من الماس لا تقدر بثمن .. هل تحب أن تراها .. ؟

وضحكت وأنا أحدق فى وجه الرجل الكهل وقد جرى فى عروقه دم الشباب وهو يتحدث عن الماس ..

ويسألنى متعجبا :
ــ لماذا تضحك .. ؟
ــ لأنك وقعت على أوعر أرض رن عليها حافر ..
ــ لا أفهم شيئا ..
ــ أعنى أنك وقعت على أفلس رجل فى الوجود ..

وأخذت أروى له قصتى .. وكيف جئت إلى هونج كونج .. وفوجئت بالحرب فى بلادى وتقطعت بى الأسباب ..
ــ لا تبتئس فأنت شاب تتحدث بأكثر من لغة وتستطيع أن تجد عملا .. فلا تفكر فى الموت جوعا ..
ولكنى كدت أموت من الجوع فعلا .. بعد أن سدت فى وجهى كل وجوه العمل ، وشعرت بالقنوط ، وكادت تقهرنى الحياة ..

ودخلت غرفتى مرتميا على الفراش وأنا أتصبب عرقا .. وفكرت فى الموت بدل الهوان وتمنيت المرض بالحمى لأموت ميتة طبيعية .. بدلا من الانتحار ..

ولكننى لم أمرض قط فى هذه الفترة المظلمة من حياتى رغم أننى كنت آكل أردأ الأطعمة ..

وظللت أفكر .. وأحدق فى سقف الغرفة .. وأتصور النزلاء الذين كانوا قبلى ومن سيأتى منهم بعدى .. أنهم سينامون على نفس السرير .. ومنهم الشريد والمحتال والطيب والشرير .. العبقرى الفذ والرجل الذى لا وزن له فى الحياة ولا قيمة ، سيرقدون على هذا السرير .. نفس السرير الذى يتغير ويستقبل فى كل يوم أو شهر نزيلا جديدا ..

وأحسست بالعرق غزيرا والحرارة خانقة .. فنهضت لآخذ حماما .. وخرجت إلى الطرقة المؤدية إلى دورة المياه ..

ولمحت وأنا راجع فى الغرفة الملاصقة لغرفة جارى من الناحية الشرقية .. وفى ضوئها الشاحب شابة صينية تجلس مسترخية على كنبة .. وقد جعلتها الرطوبة والحرارة لا تحس بوجودى ..
ولم أعرها اهتماما .. فما أكثر الفتيات فى هونج كونج ..

ثم أصبحت أراها كلما مررت فى الطرقة متخذة نفس الوضع وبابها مفتوح ..

ولعلها متضايقة من الجو القابض .. والرطوبة فى هذا الفصل من السنة .. لأن غرفتها صغيرة ولها نافذة خلفية تطل على مصنع للجلود .. وفوقه مكاتب الإدارة فأغلقت الفتاة النافذة حتى لا تشاهدهم ولا يشاهدونها فى مباذلها ..

وكانت لا تبرح غرفتها إلا قليلا .. وتقوم هى بتنظيفها بنفسها وترتيب فراشها ..

وشاهدتها ذات مرة راكعة تحت السرير وممسكة بالمجرفة .. ولما وقع بصرها علىّ احمر وجهها وغدا فى لون الأرجوان ..

* * *

وحملت بذلة جديدة وقمصانا ومنبها موسيقيا وساعة وكل ما قررت الاستغناء عنه من متاعى لأبيعه لتاجر صينى .. فى شارع ( تشين رود ) وأعطانى ثلاثمائة دولار هونج كونجى وسررت جدا وكان هذا المبلغ عندى يساوى ثلاثمائة جنيه استرلينى ووضعت المبلغ فى جيبى وركبت الباخرة إلى كولون لأشرب الشاى فى مشرب هادئ جميل كنت أتردد عليه عندما كنت ساكنا هناك ..

ولما اتخذت مقعدى رأيت الفتاة الصينية جارتى فى الفندق وكانت جالسة على مقعد فى الدرجة الثانية مثلى ولما بصرت بى ابتسمت وأحنت رأسها بحركة خفيفة ولا أدرى كيف عرفتنى وهى محبوسة فى غرفتها المظلمة دوما ..

* * *

وقضيت النهار كله فى كولون ، ولما عدت إلى الفندق فى المساء وجدت جارى ( البرت ) .. جالسا فى البهو .. وبجانبه القبعة التيلية التى يرتديها فى النهار ..

وأخذ يحدثنى عن المدن التى شاهدها منذ عشرات السنين .. وكأنه رآها بالأمس ، كان يحب الأسفار حتى غدت متعته الوحيدة ..

وسألنى فجأة ..
ــ هل تحب أن أريك الماسة .. ؟؟
وصعدنا إلى غرفته ..

وتناول محفظة جلدية أنيقة من الدولاب .. وأرانى ماسة مضلعة زرقاء .. أكبر من أن توضع فى خاتم .. ويمكن أن يزين بها صدر حسناء .. ليست ككل الحسان .. أو توضع على قمة الفصوص فى تاج امرأة .. امرأة ملكة على النساء جميعا ..

وأدارها فى يده .. فغابت الزرقة .. وأصبحت تشع كل ألوان قوس قزح مجتمعة .. وكلما حركها .. ازدادت فتنة ..
وفى كل وجه من وجوهها وهى تتحرك رأيت صور البشر .. بخيرهم وشرهم وآمالهم وأحلامهم ويأسهم وقنوطهم ..

وسألنى وهى لا تزال فى يده وعيناه تحدقان فيها :
ــ كم تقدر .. لهذه الماسة .. ؟
ــ لا أدرى .. فلست من تجار الماس وما لمسته يدى قط ..
ــ خمن ..
ــ مائة جنيه استرلينى ..

فضحك وقال :
ــ أنها تساوى أكثر من خمسة آلاف جنيه استرلينى ..
ــ ولماذا لا تضعها فى خزانة بنك .. ؟
ــ وماذا أفعل .. إذا غيروها بماسة زائفة .. أنت لا تعرف شيئا عن الماس ..
ــ ولماذا ترغب فى بيعها .. والاحتفاظ بها أحسن ..؟
ــ هذا صحيح .. ولكنى وحيد .. فقد فقدت أسرتى وتجارتى فى الحرب العالمية الثانية ..
وكانت الصدمة قاسية .. ولكن الأيام كفيلة بمسح الأحزان وانتهت الحرب ولم أفكر فى الزواج ..

وأشعل سيجارة وصمت .. كان يسترجع الذكريات .. ثم أضاف وقد تغيرت نبرات صوته ..
ــ ولما بلغت الشيخوخة صفيت أعمالى وأخذت أسيح فى العالم أجمع .. وقد رأيته كله .. حتى بلدك مصر رأيتها .. ومن طوكيو .. اشتريت هذه الماسة .. ولما حططت رحالى فى هونج كونج .. ورأيتها بهذا الجمال .. استقر قرارى على أن أبقى هنا ما شاءت لى الحياة ..
ــ لقد أحسنت الاختيار .. إنها مدينة جميلة حقا ..

قال فى صوت الحالم ..
ــ وفى هذه المدينة أخذت أفكر .. ما حاجتى إلى الماسة فى هذه السن .. ؟
سأستبدل بها شيئا جميلا أخذ على مشاعرى واستغرق كل تفكيرى .. سأبيع الماسة وأشترى بثمنها سفينة ذهبية ..
ــ سفينة ذهبية ..؟
ــ أجل ، هل ذهبت إلى ( أبردين ) وأكلت السمك فى السفينة العائمة .. ؟ ورأيت هؤلاء الناس الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء دون أن يشعر بهم إنسان .. ؟
ــ نعم ذهبت .. وشاهدتهم ..
ــ سأعيش فى السفينة الذهبية مثلهم أعيش وأموت فى الماء ..
ــ وهل عثرت على السفينة ..؟
ــ أجل .. إنها فى الخليج .. وسأشتريها بعد أيام قليلة وأحقق أحلامى ..

وكان قد طلب زجاجة من البراندى .. وابتدأ يشرب .. وقدم لى كأسا فاعتذرت .. وحييته وصعدت إلى غرفتى ..

ويظل البرت فى مكانه إلى ساعة نومه .. كان نادر الخروج فى الليل .. ومن الساعة التاسعة تراه فى البهو يشرب الخمر .. ويتحدث مع من يألفه من السيدات النزيلات فى الفندق .. أو اللواتى يأتين من الخارج فى ساعات الليل ..
ومع أنه جارى ولكننى لم أشاهد قط امرأة فى غرفته ..

ومرت الأيام .. وهدأت نفسى القلقة بعد بيع حاجاتى ووجود دولارات معى تكفينى عدة أيام ..

وسررت جدا لما رأيت فى جريدة ( جنوب الصين ) خبر وقف القتال فى بلادى وأن الأعداء أخذوا يرحلون عن بور سعيد .. وهزتنى الفرحة فكتبت رسالتين لوالدى أعرفه بحالى وأبدى له رغبتى فى العودة ..
ثم أخذت أتجول فى المدينة ..

* * *

واستيقظت فى صباح يوم من أيام ديسمبر على زعيق جارى ( البرت ) وجريت نحوه .. وأنا أتصور أن النار اشتعلت فى ملابسه ..
ووجدته جالسا فى غرفته يرتعش ووجهه فى لون الرماد .. وقد برزت تجاعيده .. وأصبحت عيناه فى لون الجمر ..

وكان متهالكا على الكرسى بالبيجامة .. وقميصه أنشق عن صدره الهزيل .. ورجلاه متدليتان كالمشلولتين ..

ولما دخلت لم يتحرك وظل فى مقعده ورفع وجهه برهة ورأيت الدموع فى عينيه وأطرق ليخفى دمعة ..
وعرفنى أن الماسة سرقت .. ولا يعرف السارق ..
فالغرفة يدخلها معظم الخدم فى الفندق ..

ودارت عيناى فى الغرفة .. تتفحص الدولاب والكنبة .. والطاولة .. والسرير .. ثم جلست بجانبه وأخذت أحادثه وأخفف عنه وقع السرقة بكل فنون الأحاديث ..

وكان الكرسى الذى أجلس عليه قريبا من السرير فلمحت على فراشه شعرتين طويلتين .. من شعر النساء .. وآثار جسم فى المكان المجاور له على المرتبة ..
ولم أشأ أن أحرجه وأسأله عن المرأة التى قضت الليلة معه ..

وقلت له :
ــ بلغ البوليس ..
ــ وهل هذا يجدى .. والخدم فى الفندق يتغيرون كثيرا .. وهناك النساء اللواتى يأتين من الخارج .. ولا يعرف الفندق عنهن شيئا .. وأكثر من واحدة منهن قضت الليل معى ..
وكان اعترافه مذهلا .. فلم ألاحظ عليه هذا .. وحسبته يكتفى بالحديث مع النساء ..

ولما علم كاتب الفندق بخبر السرقة جاء إليه وتجمع الخدم على الباب ..
وكانوا جميعا يطلبون إبلاغ البوليس ..
ولكن البرت رفض ..

* * *

وفى الليل لم يخرج إلى البهو كعادته .. وزرته فى غرفته .. ووجدته على حاله من الألم .. فأخرجت مائة دولار من جيبى وقدمتها له ..

فرفضها بشدة وسألنى :
ــ من أين هذا المال وأنت مفلس ..
وحدثته عن الأشياء التى بعتها ..

فظهر على وجهه الألم وقال :
ــ إن ما حدث قد حدث .. ولكن أرجو ألا تبيع شيئا آخر .. وفيما يتعلق بى فأنا معى من المال ما يكفينى والماسة كانت بالنسبة لى حلما .. ولكنه حلم ليل وذهب مع تباشير الصباح ..
وتركته .. بعد أن هدأت حاله قليلا ..

* * *

ومرت الأيام .. وسمعت نقرا خفيفا على باب غرفتى وأنا أتهيأ للنوم فنهضت لأفتح الباب ووجدت جارتى .. واقفة فى الضوء الشاحب .. مرتدية روبا حريريا مشجرا ثنته عند صدرها وتركت شعرها الأسود الطويل ينسدل وراء ظهرها متموجا شديد البريق ..

وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
ــ هل يمكن أن تعطينى جريدة ( جنوب الصين ) لحظات .. لقد رأيتها معك فى الصباح ..
ــ تفضلى ..
وأعطيتها الجريدة وانسابت وأنا لا أسمع صوت خفها ..

وعادت بعد نصف ساعة لترد لى الجريدة .. وقالت بصوت ناعم وإنجليزية سليمة :
ــ إن غرفتك جميلة وواسعة .. وليست كغرفتى الصغيرة .. الخانقة ..
ــ ولماذا لا تأخذين مثلها .. وهناك غرف خالية كثيرة ..
ــ ومن أين أدفع وأنا فقيرة .. إن غرفتى بخمسة دولارات .. وأنت تدفع ضعف ذلك ..
ــ سأدفع سبعة فقط ..
ــ لقد أكرمك ( منج ) لأن إقامتك طويلة ويعرف أنك مصرى .. أعطنى سيجارة ..

وأخذت تدخن .. وهى واقفة .. وبدت متوسطة الطول رشيقة القامة .. وبشرتها الناعمة تتأذى حتى من لمس الحرير الذى على جسمها ..

وقالت بعد صمت :
ــ هل رأيت جارنا النمسوى العجوز ( البرت ) .. إنه مسكين حقا .. كيف ضاعت منه الماسة .. هل يتصور شخص فى الدنيا أن عنده ماسة .. لعله .. يكذب ليستدر عطف النزلاء .. لقد رأيتك وأنت تقدم له الدولارات .. إنه محتال وأنا أعرف حيل هؤلاء العجائز ..
ــ لا تظنى بالرجل الظنون .. فهو صادق .. وقد رأيت الماسة بعينى ..
ــ ونادرة كما يقول ..
ــ أجل .. من الماس النادر ..

وعادت تتطلع إلى الغرفة .. ثم جلست وكانت السيجارة لا تزال مشتعلة فى يدها ..
ــ إن غرفتى خانقة .. هل تسمح لى بأن أقضى الليل معك ..
ــ آسف .. أنا ..
ــ ماذا .. ؟!
ــ مفلس ..
ــ مفلس .. وكيف قدمت الدولارات للنمسوى العجوز .. إذن ..
ــ هذا شىء آخر .. وما زلت مفلسا ..
وظلت تبتسم ويدها تعبث بطرف ثوبها .. ثم خرجت ..

* * *

وفى ليلة من ليالى الخميس ألفيت ( البرت ) فى البهو .. وكان متهلل الوجه يضاحك كل من يراه .. بنشاط ومرح وكأنه عاد إلى شبابه .. وأخبرنى أنه وجد الماسة أمس بجانب سريره لما دخل غرفته لينام ..
وابتهجت لهذا جدا ..

وفى يوم السبت الذى بعده دخلت مشربا للشاى فى شارع ( كوين رود ) وكانت الساعة لا تتجاوز الثامنة مساء فرأيت وأنا أكتب رسالة لوالدى .. جارتى فى الفندق جالسة إلى مائدة وحدها ولم أشاهدها وأنا داخل .. لأنها كانت منزوية فى ركن وحييتها ..

وجلست معها بعد أن فرغت من الرسالة .. وبعد حديث طويل قلت لها :
ــ هل ترافقينى غدا فى رحلة بالقطار .. ؟ إلى لو و ..
وسألت بخبث ..
ــ وهل معك نقود .. ؟
ــ أصبح معى ..
ــ كيف .. هل سرقت البرت العجوز .. ؟
ــ قد وجدت عملا ..
ــ حقا .. أين ..؟
ــ فى مكتب " وانج لى " للسياحة بشارع هليوود رود ذهب معى البرت إلى صاحب المكتب صباح الجمعة فشغلنى على التو ..
ــ وسيدفع لك أجرا مجزيا .. ؟
ــ بالطبع أجرا عاليا ولكن هذا لا يهم .. المهم أن أرافق السائحات ..

وظهر على وجهها الغيظ لحظات ولكنها كتمته ببراعة وابتسمت ..

ومرت الفتاة العاملة فى المشرب بجانبنا ترفع أقداح الشاى وكان شعرها أسود متموجا جميلا .. ولاحظت مرافقتى أننى أطيل النظر إليه ..

فقالت :
ــ شعرها جميل .. ؟
ــ إلى حد .. ولكننى وجدت شعرتين سوداوين أكثر جمالا على فراش ( البرت ) العجوز فى الصباح الذى اكتشف فيه ضياع الماسة فى نعومة شعرك وجماله وطوله ..

وحدقت فى وجهى باستغراب .. ثم انطلقت تضحك حتى اهتز صدرها ..

وقالت برقة :
ــ صحيح .. هل حدث هذا .. ؟
ــ أجل .. والشعرتان معى ..
ــ ولماذا تحتفظ بهما ..؟
ــ لأنهما تذكار جميل ..
ــ وهل عرفت صاحبتهما ..؟
ــ أجل .. فلا يوجد شعر فى هذا الجمال .. وهذا الطول .. غير شعر نزيلة واحدة فى الفندق ..

وصمتنا مدة طويلة لا ننطق بحرف .. وساعد على الصمت هدوء المشرب .. والستائر الحريرية المسدلة فى كل الزوايا .. والإضاءة الخفيفة والموسيقى الصينية .. الناعمة ..

وأخيرا حركت شفتيها وهى لا تنظر ناحيتى كأنها تحدث شخصا آخر ..
وقالت :
ــ تحدث أشياء فى نفس الإنسان لا يستطيع تفسيرها .. ولا تعليل جزئياتها الصغيرة ، وتراه يفعل الشىء وضده فى وقت واحد .. الخير .. والشر .. معا ويتغير ويغير نهجه فى الحياة لأبسط الأشياء التى تحدث .. أشياء بسيطة ولكنها تحركه وتجعله ينتفض ..

وعندما رأيتك تقدم النقود لالبرت العجوز وأنت على حالك من الإفلاس .. وتحتاج لكل سنت منها أصابتنى رعشة .. ولم أستطع التخلص من الأفكار التى ألحت على وظلت تلح وأخيرا فعلتها .. ولم أندم .. أنا سعيدة جدا ومن الفرحة أحس بخفقان قلبى ..
ــ إنك نبيلة .. وهذا كرم كبير منك .. فما كان أحد يعرف اليد التى امتدت وأخذت ولقد طويت الصفحة .. وكاد ( ألبرت ) ينسى ..

وأشعلت سيجارة أخرى وسبح الدخان الأزرق فى خيوط وتبعته ببصرى وسألتنى وهى تتكئ بكوعها على المائدة :
ــ وإذا وصلتك النقود من مصر .. سترحل وتترك الوظيفة .. ؟
ــ طبعا .. مع أن الوظيفة ممتعة للغاية ..
ــ ترحل .. وأنا لم ألمس حتى يدك أو أعرف اسمك ..؟
ــ اسمى جعفر .!
ــ وأنت بماذا أسموك .. بكل ما فيك من جمال .. ؟
ــ " يه ونج " .. وستضع " يه ونج " شعرها كله على وسادتك الليلة ..

وبارحنا المشرب وأخذنا نسير متمهلين فى اتجاه الميناء .. وقد بدت المدينة راقدة فى الليل على التلال وساكنة وصدرها يلمع بحبات الزمرد ..
ولا أحد يعرف ما يجرى فى جوفها من فعل البشر ..

================================
نشرت بمجموعة قصص لمحمود البدوى وتحمل عنوان القصة " السفينة الذهبية " فى عام 1971
وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================