الركشـــا
قصة محمود البدوى
اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..
ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..
فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..
فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..
وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..
ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..
وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..
فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..
واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..
وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..
وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..
وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..
وقلت لها بالإنجليزية :
ــ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ــ إننى كريستينا ..
ــ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ــ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..
وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..
فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ــ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ــ لست هنديا ..
ــ حقا .؟
ــ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ــ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..
وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..
وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..
وابتدرته قائلة :
ــ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ــ حقا ..؟
ووضع آلة تصوير ــ كان يحملها ــ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..
ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..
ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..
وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ــ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ــ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ــ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..
وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..
وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..
والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..
وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ــ هالو .. السيد مختار ..
ــ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ــ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..
وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..
وقال لزوجته ..
ــ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ــ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ــ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ــ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ــ إلى هذا الجنون ..
وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..
وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ــ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ــ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..
وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..
وأخيرا قلت لكريستينا ..
ــ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟
فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..
وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ــ هل رأيت لندن ..؟
ــ أبدا ..
ــ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ــ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ــ أجل .. نسيت هذا ..
ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ــ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!
وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..
وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..
وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..
ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..
وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..
وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..
ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..
وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..
وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ــ أريد أن أدخن سيجارة ..
فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..
ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..
وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..
وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ــ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ــ لا .. اذهب ..
ــ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ــ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :
ــ ما الذى يطلبه ..؟
ــ يدعونا .. إلى رقص صينى ..
وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ــ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ــ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ــ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..
* * *
وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..
وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..
وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..
وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..
وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..
وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..
ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..
وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..
ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..
ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..
وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..
وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..
وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..
وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..
* * *
وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ــ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ــ هل أنت ذاهب ..؟
ــ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ــ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..
فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..
ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..
فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..
* * *
والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..
والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..
ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..
وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..
وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..
وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..
واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..
* * *
وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..
وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ــ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ــ أبدا ..
ــ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ــ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ــ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ــ إطلاقا ...
ــ تسمح تفتح الحقائب ..
وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================
قصة محمود البدوى
اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..
ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..
فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..
فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..
وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..
ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..
وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..
فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..
واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..
وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..
وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..
وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..
وقلت لها بالإنجليزية :
ــ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ــ إننى كريستينا ..
ــ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ــ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..
وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..
فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ــ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ــ لست هنديا ..
ــ حقا .؟
ــ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ــ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..
وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..
وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..
وابتدرته قائلة :
ــ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ــ حقا ..؟
ووضع آلة تصوير ــ كان يحملها ــ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..
ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..
ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..
وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ــ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ــ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ــ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..
وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..
وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..
والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..
وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ــ هالو .. السيد مختار ..
ــ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ــ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..
وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..
وقال لزوجته ..
ــ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ــ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ــ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ــ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ــ إلى هذا الجنون ..
وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..
وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ــ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ــ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..
وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..
وأخيرا قلت لكريستينا ..
ــ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟
فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..
وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ــ هل رأيت لندن ..؟
ــ أبدا ..
ــ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ــ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ــ أجل .. نسيت هذا ..
ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ــ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!
وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..
وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..
وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..
ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..
وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..
وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..
ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..
وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..
وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ــ أريد أن أدخن سيجارة ..
فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..
ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..
وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..
وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ــ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ــ لا .. اذهب ..
ــ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ــ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :
ــ ما الذى يطلبه ..؟
ــ يدعونا .. إلى رقص صينى ..
وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ــ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ــ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ــ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..
* * *
وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..
وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..
وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..
وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..
وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..
وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..
ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..
وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..
ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..
ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..
وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..
وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..
وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..
وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..
* * *
وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ــ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ــ هل أنت ذاهب ..؟
ــ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ــ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..
فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..
ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..
فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..
* * *
والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..
والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..
ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..
وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..
وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..
وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..
واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..
* * *
وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..
وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ــ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ــ أبدا ..
ــ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ــ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ــ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ــ إطلاقا ...
ــ تسمح تفتح الحقائب ..
وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق