اللــؤلــؤ
قصة محمود البدوى
هونج كونج ميناء حرة .. وفى سوقها كل ما ينتج فى العالم .. والساعات والجواهر واللؤلؤ هى أشهر الأشياء التى تباع فى الحوانيت .. هذا ما عرفته من الدليل ..
وعندما سرت فى حى شستر رود فى قلب المدينة مستعرضا الحوانيت .. كنت أفكر فى شراء عقد من اللؤلؤ .. أهديه لوالدتى .. عندما أعود إلى القاهرة فتفرح به .. فى مرضها .. وأكفر به عن كل سيئاتى لها .. طوال هذه السنين .. وأرد لها بعض ما كنت أغتصبه منها من نقود .. لأنطلق وراء الشيطان ..
وعندما تموت سأسترد العقد .. وأبقيه للظروف .. فهو كنز وفى استطاعتى إذا بعته أن أكسب منه مئات الجنيهات ..
وعندما دخلت محل يونج أكبر تجار الجواهر فى هونج كونج .. رأيت اللآلئ لأول مرة فى حياتى .. ولمستها بأصابعى العارية .. كنت أراها من قبل عن بعد على صدور النساء الأنيقات فى حفلات الأوبرا .. أو أراها مصورة فى الصحف .. أما الآن فقد لمستها ..
وضعت البائعة عقد اللؤلؤ على صدرها وزهت به .. وعرفت منها اللآلئ المصنوعة واللآلئ الطبيعية .. ولم أستطع لا بالنظرة المجردة ولا حتى بالمجهر أن أميز أى فرق ..
واشتريت عقدا صغيرا من اللؤلؤ الطبيعى ودفعت فيه تسعة آلاف دولار ..
وفرحت به .. ووضعته فى حقيبة صغيرة .. وأغلقت عليه الدولاب فى الفندق .. كشئ عزيز المنال ..
وكنت دائما أفكر فيه .. وجعلنى التفكير .. أدخل محلا آخر فى حى المتاجر الشهير فى شارع دىفو .. لأعرف السعر .. فقد تصورت أن الرجل اشتط علىّ فى الثمن ..
ولما عرض علىّ التاجر الثانى بعض ما عنده من لآلئ جعلنى .. أشك فى كل شىء .. فقد فهمت منه .. أن هناك لؤلؤا يزرع فى أعماق البحار .. كما تزرع أشجار المانجو والتفاح فى الأرض ويظل فى أعماق البحار من ثمانى إلى عشر سنوات .. وهذا اللؤلؤ المزروع لا فرق بينه وبين اللؤلؤ الطبيعى على الإطلاق .. وخرجت من عنده وأنا ألعن القدر الذى جعلنى أفكر فى شراء شىء ليس لدىّ أدنى خبرة فيه ..
ثم شغلت بجمال المدينة .. ومافيها من بهجة ولم أعد أفكر فى الأمر كما كنت أفكر فيه من قبل ..
وكنت أقيم فى فندق السهم الذهبى .. بشبه جزيرة « كولون » .. ولكننى كنت أذهب فى بكرة الصباح إلى هونج كونج .. وأشاهد هذه المدينة الراقدة على سفح التل وهى تبدأ الحياة .. وبعد أن أعبر الخليج وأخرج من الميناء .. أشترى جريدة جنوب الصين .. من بائعة هناك على الرصيف .. وكانت كما بدت لى أرملة .. فى الخامسة والثلاثين من عمرها .. ترتدى رداء صينيا .. من قطعتين .. وكان يجلس بجوارها غلام فى الخامسة عشرة من عمره يمسح الأحذية .. وكنت أمسح عنده حذائى كل صباح .. وأعطيه نصف دولار فى كل مرة .. فيسر به كثيرا ..
وكنت أقلب فى الجريدة فى الفترة التى أمسح فيها الحذاء ثم أتركها للمرأة وأنا ماش بعد أن أكون قد نقدتها الثمن .. فكانت تسر جدا من هذا العمل .. وتحاول فى كل يومين أو ثلاثة أن تعطينى مجلة التايم .. أو مجلة لوك فى مقابل الجريدة التى أردها إليها .. ولكننى كنت أرفض ..
وكان الغلام عندما يشعر أننى فى حاجة إلى تاكسى ..يقفز أربع قفزات فى الهواء إلى الموقف ويأتى بواحد منها فى لمح الطرف .. وكنت أعجب لهذه السرعة الخاطفة ..
وبعد أن أتجول فى المدينة كنت أستريح فى مشرب على الطريق أستعرض من وراء الستر المسدلة العابرين فى الطريق .. وكانت النساء بجيوبهن المشقوقة .. ومشيتهن اللينة هن أكثر الأشياء استلفاتا للأنظار ..
وكانت المدينة بعد الساعة التاسعة والنصف .. وبعد أن تفتح جميع الحوانيت والمتاجر والبنوك تصبح كخلية النحل ..
ولم أكن أنتقى مكانا معينا .. كنت أجلس كما اتفق فى أى مكان أستطيع أن أشاهد منه متعة أكثر ووجوها اكثر إشراقا ونضارة ..
ولكنى كنت أتغدى فى مكان معين فى « كولون » ولقد اخترته لأنه مطعم صغير هادىء .. ولأنه كان يقدم أجود الأطعمة.. بأرخص الأسعار .. ولأننى كنت أرى فيه مجتمعا من النساء والرجال من كل الأجناس ندر أن أراهم فى مكان آخر .. كان كأنه مطعم دولى .. وكان يأتى إليه كثير من الأوربيات والأمريكيات العاملات فى هونج كونج .. وفوق هذا فقد كانت مديرة المطعم حسناء ..
وكنت أختار مائدة قريبة منها .. لأمتع نظرى بجمالها .. وكنت أذهب لأتغدى فى الساعة الواحدة تماما .. وأمكث هناك من الواحدة .. إلى الثالثة بعد الظهر .. أشرب القهوة .. وأطالع الصحف وأتطلع إلى الوجوه .. وكنت أحاول فى الفترة التى يخلو فيها المطعم من الآكلين ويخف الرواد ويتحول إلى قاعة للشاى .. أن أنفرد بالحديث مع المديرة الحسناء .. ولكنها كانت تصدنى بجفاء لا يوصف .. ولقد جعلنى هذا الجفاء أتعلق بها أكثر .. وأكثر ..
وكانت تجيد الإنجليزية .. ومع أنها صينية وولدت فى هونج كونج ولكن ملامحها لم تكن صينية خالصة .. وكنت أقدر أن والدها أجنبى قطعا .. وإذا لم تكن أمها تزوجت بإنجليزى .. فقد أتت بها عن طريق غير شرعى ..
وكان شعرها أسود غزيرا .. وشفتاها غليظتين ..حمراوين .. حمرة قانية .. كانتا تلمعان أبدا .. كأنما سقيتا الشهد منذ لحظات ..
وكانت فتحة عينيها آسرة وفى تقاطيع جسمها وبشرتها .. كل النعومة والفتنة والبياض الذى تتيه به أجمل النساء وكانت إقامتى الطويلة فى المطعم تجعلنى أذهب .. إلى دورة المياه .. لأغسل وجهى قبل أن تنقطع المياه من « كولون » فقد كانت . تنقطع ساعات معينة من النهار .. ولأنى كنت استأنف تجوالى فى المدينة ولا أذهب إلى الفندق وكنت وأنا هابط إلى دورة المياه .. وكانت فى الدور الأسفل .. ألتقى بعمال المطبخ ..
وكان هناك رجل صينى فىالثلاثين من عمره .. كئيب السحنة .. لم يكن وجهه ترتاح له العين ..
وكنت أرى هذا الرجل يصعد إلى الدور العلوى بعد أن تغير المفارش التىعلى الموائد ويجلس بجوار مس تشن .. يشرب الشاى ويتحدث مدة طويلة .. ثم يعود ويهبط كما كان ..
وكان وجهه مدورا وعيناه منفوختين وفى خده الأيمن آثار جروح .. كان كأنه ضرب بمشرط حاد .. فى أكثر من موضع .. ومع أنه كان واحدا من الذين يجيدون التحدث بالإنجليزية فى المحل .. ولكننى كنت لا أسأله عن شىء ..
وكان هذا المطعم الصغير يوجد على غراره كثير من المطاعم فى حى الجولدن جات ، ويوجد هناك كثير من الفتيات الجميلات يخدمن ويبعن الشيكولاتة .. والسجائر للزبائن .. ولكننى فتنت بمس تشن من أول نظرة .. وكانت قدماى تقودنى إلى مطعمها دون أن أشعر .. كنت كالمأخوذ فى الواقع ..
وفى خلال الأسبوع الأول أدركت أنها سيطرت على مشاعرى تماما ..
وكانت تجلس صامتة على البنك قليلة الكلام .. قليلة الحركة .. فى دلال طبيعى .. وكان هذا الدلال .. يسحرنى ..
وكنت أسمعها تحادث الإنجليزيات اللواتى يأتين إلى المطعم ليأكلن ويشربن الشاى بلغة رشيقة .. وتبدأ ابتسامتها الحلوة فى هذه اللحظة ..
وكنت كلما تقدمت لمحادثتها أشعر بعينيها تقولان لى :
ــ لا تضيع وقتى .. بحديث ملفوف ، أنا أعرف غرضك ..
وكنت أتعذب .. وأعود إلى المائدة وأنا أغلى من الغيظ ولكننى كنت أكتم عواطفى .. وفى كل يوم يمر أزداد تعلقا بها .. ولم أكن أنقطع عن الذهاب إلى المطعم أبدا .. وكان الغداء ينتهى عادة فى الساعة الثانية بعد الظهر ويخف الرواد ولكننى كنت أبقى .. أكتب بعض الرسائل أو أتلهى بعمل أى شىء .. وعيناى لا تتركانها أبدا ..
وفى حوالى الساعة الثالثة .. كانت تتحرك من وراء الطاولة .. بعد أن تجمع النقود فى حقيبتها .. وتنزل إلى الدور الأرضى ..
وفى تلك اللحظة كنت أشاهد ساقيها واستدارة فخذيها .. وكل تقاسيم جسمها فى الرداء الضيق ..
ولم تكن ترتدى الرداء الصينى المشقوق الجيوب أبدا .. ثم تخرج من الطابق الأرضى وهى فى أبدع زينة وتحيى الخدم وتنصرف ..
وتبعتها مرة فلاحظت أنها تسكن فى بيت قريب من المطعم ..
وكان فى مدخل البيت دكان صغير فدخلته أتفرج على بعض القداحات حتى تصعد هى .. وعندما بصرت بى وأنا أتبعها ظلت نظراتها جامدة ..
ولقد حاولت بشتى الوسائل .. وبكل مالدى من تجارب أن أذيب هذا الجمود .. ولكننى لم أوفق أبدا .. كانت تنظر إلى دائما .. كشىء لا ترتاح عيناها إلى طلعته .. ولقد جعلتنى أنظر إلى وجهى فى المرآة أكثر من مرة لاحاول أن أعرف ما ينفرها منى .. وأدركت أخيرا أنه ربما يكون الندب الحاد الذى فى الجبهة .. أو العينين الضيقتين .. كعين الصينيين أنفسهم فهى مع كونها صينية ولكنها لا تحب من يشبه بنى جنسها ..
وذهبت إليها مرة ومعى ورقة بخمسة آلاف دولار .. لأفكها ..
فقالت بصوت ساكن :
ــ ليس لدى فكة .. انظر ..
وقلبت الدرج وأرتنى أكثر من عشرين ورقة كبيرة .. وهى تغمزبعينيها استخفافا .. فقد تصورت أننى أريها الورقة .. لأدلل لها على ثرائى ..
ولقد زادنى هذا غيظا .. لتفاهة تفكيرها .. وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى كتمت غيظى ..
وذات مرة رأيتها تضع عقدا من اللؤلؤ على صدرها فى حجم العقد الذى اشتريته .. فسألتها :
ــ ألك خبرة باللآلئ .؟ لقد اشتريت عقدا .. مثل هذا وأخشى أن يكون مصنوعا ..
ــ هل هو معك ؟
ــ لا .. إنه فى الفندق ..
ــ هاته غدا لنراه ..
وفى اليوم التالى .. أحضرت العقد .. ونظرت إليه طويلا بإعجاب .. وقالت :
ــ أظنه طبيعيا .. لؤلؤ خالص ..
ــ وكيف ميزته ..؟
ــ إنه ثقيل .. وفصوصه .. غير منتظمة .. به العيوب التى توجد فى اللؤلؤ الطبيعى ..
وسرت كثيرا .. وسألتنى :
ــ لمن اشتريته ..؟
ــ لوالدتى ..
ــ كنت أظنه لعشيقتك ..
ــ ليس لى عشيقات ..
ــ أبدا ؟..
ــ أبدا ....
ــ مظهرك يدل على أن لك عشيقة فى كل ميناء ..
ــ كالبحارة ..
ــ تماما ..
ومددت يدى بالعقد .. إليها .. وفوجئت بالعرض وقالت برقة :
ــ أشكرك ..
ــ لماذا .؟ تفضلى .. يمكننى أن أشترى غيره ..
ــ ليس له مكان فى صدرى .. إن صدرى مشغول ..كما ترى ..
وطويت العقد فى جيبى وأنا مسرور بهذه النتيجة .. رغم رفضها العقد.. وبعد ساعة نزلت إلى الطابق الأرضى .. فوجدتها هناك أمام المرآة تتزين ..
وكانت قد خلعت كل عذارها .. وبدا صدرها كله عاريا وهى تمشط شعرها .. ورأتنى وأنا أنظر إليها بقوة .. ولكنها تجاهلت نظراتى .. واستمرت فى زينتها كأنها لا ترانى ..
ولما خرجت من الباب الخارجى حيتنى لأول مرة بهزة من رأسها ..
وفى اليوم التالى .. بقيت فى المطعم حتى وقت تناول الشاى فى الساعة الخامسة .. وعرضت عليها نزهة فى أى مكان تختاره ..
فسألت :
ــ أين .. ؟
ــ نذهب إلى هونج كونج .. ونتعشى فى المطعم الفرنسى ..
ــ أشكرك .. إنك ترى أنى مشغولة جدا .. ليس لدى وقت ..
ــ ولكن أرجو أن تصحبينى فى جولة ولو قصيرة ..
ــ دعنى أفكر فى الأمر إلى الغد ..
وفى الغد قبلت أن تذهب إلى السينما فى هونج كونج ..
وعندما صعدنا من الباخرة .. وجدت المرأة الصينية التى تبيع مجلة مصورة وكان بجوارها الغلام .. ولكننى لم أستطع مسح الحذاء ومعى مس تشن .. فأعطيت الولد دولارا وفرح به كثيرا ..
وكان الفيلم أمريكيا وآفا جاردنر تهز المشاعر .. فأمسكت بيد مس تشن ولكنها سحبت يدها من يدى بسرعة وقالت هامسة :
ــ أرجوك إننا فى هونج كونج .. ولسنا فى لندن أو باريس ..
فتركت يدها .. وجلست صامتا حتى أضيئت الأنوار ..
وأصبحنا نتقابل كثيرا فى الفترة التى تستريح فيها فى الظهر .. فنذهب فى أى جولة نهارية ..
وحدث فى يوم من أيام الأربعاء .. وكنت قد ذهبت من الصباح أشاهد حى الصيادين فى ابردين .. أن عدت إلى المطعم بعد الساعة الرابعة .. فلم أجدها على البنك .. فتصورتها ذهبت إلى بيتها لتستريح .. ولكننى لما نزلت إلى الدور الأرضى .. أغسل وجهى سمعت همسا .. ثم رأيتها فى المطبخ تعانق ذلك الرجل الصينى القبيح الوجه وتأكل شفتيه وقد غفلت عن كل شىء حولها .. وأسرعت صاعدا حتى لا ترانى .. ثم تناولت زجاجة صغيرة من البيرة وخرجت مسرعا من المطعم .. قبل أن تصعد هى ..
وفى اليوم التالى ذهبت عندها لأتغدى .. فتركت البنك وجاءت إلى مائدتى .. على غير عادتها ..
وسألتنى فى دلال :
ــ لم نرك .. أمس .. يا سيد جعفر .. ؟
ــ كنت فى آبردين ..
ــ بصحبة بعض الفتيات طبعا ..
ــ كنت وحدى ..
ــ هذا غير معقول ..
ــ لماذا تتصورين دائما .. أنى كازانوفا ..
ــ لأنى أعرف الرجل من عينيه ..
ــ دعك من هذا الكلام .. لماذا لا تذهبين معى الليلة إلى مرقص فى هونج كونج .. ؟
ــ غدا يمكن أن أذهب معك إلى مكان أجمل من المرقص ..
ــ أين ؟
ــ سنصعد الهضبة معا .. ونركب الترام الجبلى .. ونرى المدينة الحالمة .. فى الليل ..
ثم رأتنى أخرج العقد اللؤلؤى من جيبى الخارجى .. وأضعه فى الجيب الداخلى فسألتنى ..
ــ لماذا تحمله معك .. هل لازلت تشك فيه وتود أن تعرضه على بعض الخبراء .. ؟
فضحكت ..
ــ أبدا .. يحدث كثيرا أن أنسى الدولاب .. فى غرفتى مفتوحا والأحسن أن أحمله معى دائما كما أحمل كل نقودى ..
ــ هذا أحسن .. فقط حاذر من النشالين ..
وتركتها .. وأنا فى غاية السرور ..
والتقينا فى مساء اليوم التالى بعد أن أغلق المطعم أبوابه ..
وعبرنا الخليج .. وكانت الباخرة تصفر وقالت لى هامسة .. ونحن نصعد سلم الميناء الخشبى :
ــ احترس من النشالين .. لأنهم يكثرون فى الموانى ..
فشددت على يدها شاكرا عواطف قلبها .. ورأيت فى مفترق الطرق .. الغلام ماسح الأحذية هناك .. على الرصيف .. وبجواره أمه .. فأعطيته دولارين .. وأدركت المرأة الصينية وغلامها سعادتى فى تلك اللحظة وتبعانى ببصرهما .. وأنا أركب تاكسى مع مس تشن .. إلى محطة .. الترام الجبلى ..
وبعد ثلاث محطات نزلنا ومشينا بين الأشجار .. وأعطتنى هناك شفتيها فى الظلام أكثر من مرة .. وذقت لذة الشهد الخالص من كل مرارة ..
ثم استدرنا مع الطريق الهابط بين الأشجار .. وهناك بصرت شبح الطاهى القبيح الوجه الذى يعمل فى مطعمها ..
ولما اقتربت من الشبح اختفى ثم استبعدت وجوده فى هذه االمنطقة وأبعدته عن ذهنى بعد عشر خطوات .. وقلت لمس تشن وأنا نشوان ..
ــ لماذا لا نقضى الليل معا .. ؟
ــ أوه هذا .. ولكن أين .. ؟
ــ فى الفندق ..
ــ سنذهب إلى مكان أكثر أمانا فى هونج كونج لأنى لا أستطيع أن أقضى الليل معك فى كولون ..
وكدت أطير من السعادة ..
ونزلنا من الهضبة .. ودخلنا فى شارع صغير قليل الضوء .. وكنت بجوارها صامتا حالما بالمتعة التى لا يحصل على مثلها انسان ثم تقدمتنى لترينى الطريق ..
وفجأة حدث شىء كالصاعقة .. رأيت حبلا .. يلتف على عنقى .. ويجذبنى من الخلف .. فسقطت على الأرض وسمعت وأنا أسقط صرخة .. حادة ..
ولم أكن أنا الذى أصرخ .. كان الذى يصرخ شخص غيرى .
وأحسست بالحبل يفلت من عنقى .. ويدا تمسك بى فتنهضنى .. ولما تبينته بعد أن رجعت إلى أنفاسى ألفيته الغلام ما سح الأحذية .. وكان قد شد عنق الرجل الكئيب إلى جذع شجرة .
وكانت مس تشن قد ابتلعها الظلام .. وعربة مغلقة تقبل مصفرة وتلحس بأنوارها القوية أرض الشارع المرصوف ..
وكانت هذه العربة هى الشىء الوحيد الذى يدل على الحياة .. فى هذه المنطقة وكان عقد اللؤلؤ قد سقط من جيبى .. وتناثرت حباته على الأرض ..
فنظرت إليه فى غير اكتراث .. لم يكن يعنينى ان يكون زائفا أو طبيعيا الآن .. فقد لمست اللؤلؤ الحقيقى .. فى الإنسان ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 8/9/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================
قصة محمود البدوى
هونج كونج ميناء حرة .. وفى سوقها كل ما ينتج فى العالم .. والساعات والجواهر واللؤلؤ هى أشهر الأشياء التى تباع فى الحوانيت .. هذا ما عرفته من الدليل ..
وعندما سرت فى حى شستر رود فى قلب المدينة مستعرضا الحوانيت .. كنت أفكر فى شراء عقد من اللؤلؤ .. أهديه لوالدتى .. عندما أعود إلى القاهرة فتفرح به .. فى مرضها .. وأكفر به عن كل سيئاتى لها .. طوال هذه السنين .. وأرد لها بعض ما كنت أغتصبه منها من نقود .. لأنطلق وراء الشيطان ..
وعندما تموت سأسترد العقد .. وأبقيه للظروف .. فهو كنز وفى استطاعتى إذا بعته أن أكسب منه مئات الجنيهات ..
وعندما دخلت محل يونج أكبر تجار الجواهر فى هونج كونج .. رأيت اللآلئ لأول مرة فى حياتى .. ولمستها بأصابعى العارية .. كنت أراها من قبل عن بعد على صدور النساء الأنيقات فى حفلات الأوبرا .. أو أراها مصورة فى الصحف .. أما الآن فقد لمستها ..
وضعت البائعة عقد اللؤلؤ على صدرها وزهت به .. وعرفت منها اللآلئ المصنوعة واللآلئ الطبيعية .. ولم أستطع لا بالنظرة المجردة ولا حتى بالمجهر أن أميز أى فرق ..
واشتريت عقدا صغيرا من اللؤلؤ الطبيعى ودفعت فيه تسعة آلاف دولار ..
وفرحت به .. ووضعته فى حقيبة صغيرة .. وأغلقت عليه الدولاب فى الفندق .. كشئ عزيز المنال ..
وكنت دائما أفكر فيه .. وجعلنى التفكير .. أدخل محلا آخر فى حى المتاجر الشهير فى شارع دىفو .. لأعرف السعر .. فقد تصورت أن الرجل اشتط علىّ فى الثمن ..
ولما عرض علىّ التاجر الثانى بعض ما عنده من لآلئ جعلنى .. أشك فى كل شىء .. فقد فهمت منه .. أن هناك لؤلؤا يزرع فى أعماق البحار .. كما تزرع أشجار المانجو والتفاح فى الأرض ويظل فى أعماق البحار من ثمانى إلى عشر سنوات .. وهذا اللؤلؤ المزروع لا فرق بينه وبين اللؤلؤ الطبيعى على الإطلاق .. وخرجت من عنده وأنا ألعن القدر الذى جعلنى أفكر فى شراء شىء ليس لدىّ أدنى خبرة فيه ..
ثم شغلت بجمال المدينة .. ومافيها من بهجة ولم أعد أفكر فى الأمر كما كنت أفكر فيه من قبل ..
وكنت أقيم فى فندق السهم الذهبى .. بشبه جزيرة « كولون » .. ولكننى كنت أذهب فى بكرة الصباح إلى هونج كونج .. وأشاهد هذه المدينة الراقدة على سفح التل وهى تبدأ الحياة .. وبعد أن أعبر الخليج وأخرج من الميناء .. أشترى جريدة جنوب الصين .. من بائعة هناك على الرصيف .. وكانت كما بدت لى أرملة .. فى الخامسة والثلاثين من عمرها .. ترتدى رداء صينيا .. من قطعتين .. وكان يجلس بجوارها غلام فى الخامسة عشرة من عمره يمسح الأحذية .. وكنت أمسح عنده حذائى كل صباح .. وأعطيه نصف دولار فى كل مرة .. فيسر به كثيرا ..
وكنت أقلب فى الجريدة فى الفترة التى أمسح فيها الحذاء ثم أتركها للمرأة وأنا ماش بعد أن أكون قد نقدتها الثمن .. فكانت تسر جدا من هذا العمل .. وتحاول فى كل يومين أو ثلاثة أن تعطينى مجلة التايم .. أو مجلة لوك فى مقابل الجريدة التى أردها إليها .. ولكننى كنت أرفض ..
وكان الغلام عندما يشعر أننى فى حاجة إلى تاكسى ..يقفز أربع قفزات فى الهواء إلى الموقف ويأتى بواحد منها فى لمح الطرف .. وكنت أعجب لهذه السرعة الخاطفة ..
وبعد أن أتجول فى المدينة كنت أستريح فى مشرب على الطريق أستعرض من وراء الستر المسدلة العابرين فى الطريق .. وكانت النساء بجيوبهن المشقوقة .. ومشيتهن اللينة هن أكثر الأشياء استلفاتا للأنظار ..
وكانت المدينة بعد الساعة التاسعة والنصف .. وبعد أن تفتح جميع الحوانيت والمتاجر والبنوك تصبح كخلية النحل ..
ولم أكن أنتقى مكانا معينا .. كنت أجلس كما اتفق فى أى مكان أستطيع أن أشاهد منه متعة أكثر ووجوها اكثر إشراقا ونضارة ..
ولكنى كنت أتغدى فى مكان معين فى « كولون » ولقد اخترته لأنه مطعم صغير هادىء .. ولأنه كان يقدم أجود الأطعمة.. بأرخص الأسعار .. ولأننى كنت أرى فيه مجتمعا من النساء والرجال من كل الأجناس ندر أن أراهم فى مكان آخر .. كان كأنه مطعم دولى .. وكان يأتى إليه كثير من الأوربيات والأمريكيات العاملات فى هونج كونج .. وفوق هذا فقد كانت مديرة المطعم حسناء ..
وكنت أختار مائدة قريبة منها .. لأمتع نظرى بجمالها .. وكنت أذهب لأتغدى فى الساعة الواحدة تماما .. وأمكث هناك من الواحدة .. إلى الثالثة بعد الظهر .. أشرب القهوة .. وأطالع الصحف وأتطلع إلى الوجوه .. وكنت أحاول فى الفترة التى يخلو فيها المطعم من الآكلين ويخف الرواد ويتحول إلى قاعة للشاى .. أن أنفرد بالحديث مع المديرة الحسناء .. ولكنها كانت تصدنى بجفاء لا يوصف .. ولقد جعلنى هذا الجفاء أتعلق بها أكثر .. وأكثر ..
وكانت تجيد الإنجليزية .. ومع أنها صينية وولدت فى هونج كونج ولكن ملامحها لم تكن صينية خالصة .. وكنت أقدر أن والدها أجنبى قطعا .. وإذا لم تكن أمها تزوجت بإنجليزى .. فقد أتت بها عن طريق غير شرعى ..
وكان شعرها أسود غزيرا .. وشفتاها غليظتين ..حمراوين .. حمرة قانية .. كانتا تلمعان أبدا .. كأنما سقيتا الشهد منذ لحظات ..
وكانت فتحة عينيها آسرة وفى تقاطيع جسمها وبشرتها .. كل النعومة والفتنة والبياض الذى تتيه به أجمل النساء وكانت إقامتى الطويلة فى المطعم تجعلنى أذهب .. إلى دورة المياه .. لأغسل وجهى قبل أن تنقطع المياه من « كولون » فقد كانت . تنقطع ساعات معينة من النهار .. ولأنى كنت استأنف تجوالى فى المدينة ولا أذهب إلى الفندق وكنت وأنا هابط إلى دورة المياه .. وكانت فى الدور الأسفل .. ألتقى بعمال المطبخ ..
وكان هناك رجل صينى فىالثلاثين من عمره .. كئيب السحنة .. لم يكن وجهه ترتاح له العين ..
وكنت أرى هذا الرجل يصعد إلى الدور العلوى بعد أن تغير المفارش التىعلى الموائد ويجلس بجوار مس تشن .. يشرب الشاى ويتحدث مدة طويلة .. ثم يعود ويهبط كما كان ..
وكان وجهه مدورا وعيناه منفوختين وفى خده الأيمن آثار جروح .. كان كأنه ضرب بمشرط حاد .. فى أكثر من موضع .. ومع أنه كان واحدا من الذين يجيدون التحدث بالإنجليزية فى المحل .. ولكننى كنت لا أسأله عن شىء ..
وكان هذا المطعم الصغير يوجد على غراره كثير من المطاعم فى حى الجولدن جات ، ويوجد هناك كثير من الفتيات الجميلات يخدمن ويبعن الشيكولاتة .. والسجائر للزبائن .. ولكننى فتنت بمس تشن من أول نظرة .. وكانت قدماى تقودنى إلى مطعمها دون أن أشعر .. كنت كالمأخوذ فى الواقع ..
وفى خلال الأسبوع الأول أدركت أنها سيطرت على مشاعرى تماما ..
وكانت تجلس صامتة على البنك قليلة الكلام .. قليلة الحركة .. فى دلال طبيعى .. وكان هذا الدلال .. يسحرنى ..
وكنت أسمعها تحادث الإنجليزيات اللواتى يأتين إلى المطعم ليأكلن ويشربن الشاى بلغة رشيقة .. وتبدأ ابتسامتها الحلوة فى هذه اللحظة ..
وكنت كلما تقدمت لمحادثتها أشعر بعينيها تقولان لى :
ــ لا تضيع وقتى .. بحديث ملفوف ، أنا أعرف غرضك ..
وكنت أتعذب .. وأعود إلى المائدة وأنا أغلى من الغيظ ولكننى كنت أكتم عواطفى .. وفى كل يوم يمر أزداد تعلقا بها .. ولم أكن أنقطع عن الذهاب إلى المطعم أبدا .. وكان الغداء ينتهى عادة فى الساعة الثانية بعد الظهر ويخف الرواد ولكننى كنت أبقى .. أكتب بعض الرسائل أو أتلهى بعمل أى شىء .. وعيناى لا تتركانها أبدا ..
وفى حوالى الساعة الثالثة .. كانت تتحرك من وراء الطاولة .. بعد أن تجمع النقود فى حقيبتها .. وتنزل إلى الدور الأرضى ..
وفى تلك اللحظة كنت أشاهد ساقيها واستدارة فخذيها .. وكل تقاسيم جسمها فى الرداء الضيق ..
ولم تكن ترتدى الرداء الصينى المشقوق الجيوب أبدا .. ثم تخرج من الطابق الأرضى وهى فى أبدع زينة وتحيى الخدم وتنصرف ..
وتبعتها مرة فلاحظت أنها تسكن فى بيت قريب من المطعم ..
وكان فى مدخل البيت دكان صغير فدخلته أتفرج على بعض القداحات حتى تصعد هى .. وعندما بصرت بى وأنا أتبعها ظلت نظراتها جامدة ..
ولقد حاولت بشتى الوسائل .. وبكل مالدى من تجارب أن أذيب هذا الجمود .. ولكننى لم أوفق أبدا .. كانت تنظر إلى دائما .. كشىء لا ترتاح عيناها إلى طلعته .. ولقد جعلتنى أنظر إلى وجهى فى المرآة أكثر من مرة لاحاول أن أعرف ما ينفرها منى .. وأدركت أخيرا أنه ربما يكون الندب الحاد الذى فى الجبهة .. أو العينين الضيقتين .. كعين الصينيين أنفسهم فهى مع كونها صينية ولكنها لا تحب من يشبه بنى جنسها ..
وذهبت إليها مرة ومعى ورقة بخمسة آلاف دولار .. لأفكها ..
فقالت بصوت ساكن :
ــ ليس لدى فكة .. انظر ..
وقلبت الدرج وأرتنى أكثر من عشرين ورقة كبيرة .. وهى تغمزبعينيها استخفافا .. فقد تصورت أننى أريها الورقة .. لأدلل لها على ثرائى ..
ولقد زادنى هذا غيظا .. لتفاهة تفكيرها .. وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى كتمت غيظى ..
وذات مرة رأيتها تضع عقدا من اللؤلؤ على صدرها فى حجم العقد الذى اشتريته .. فسألتها :
ــ ألك خبرة باللآلئ .؟ لقد اشتريت عقدا .. مثل هذا وأخشى أن يكون مصنوعا ..
ــ هل هو معك ؟
ــ لا .. إنه فى الفندق ..
ــ هاته غدا لنراه ..
وفى اليوم التالى .. أحضرت العقد .. ونظرت إليه طويلا بإعجاب .. وقالت :
ــ أظنه طبيعيا .. لؤلؤ خالص ..
ــ وكيف ميزته ..؟
ــ إنه ثقيل .. وفصوصه .. غير منتظمة .. به العيوب التى توجد فى اللؤلؤ الطبيعى ..
وسرت كثيرا .. وسألتنى :
ــ لمن اشتريته ..؟
ــ لوالدتى ..
ــ كنت أظنه لعشيقتك ..
ــ ليس لى عشيقات ..
ــ أبدا ؟..
ــ أبدا ....
ــ مظهرك يدل على أن لك عشيقة فى كل ميناء ..
ــ كالبحارة ..
ــ تماما ..
ومددت يدى بالعقد .. إليها .. وفوجئت بالعرض وقالت برقة :
ــ أشكرك ..
ــ لماذا .؟ تفضلى .. يمكننى أن أشترى غيره ..
ــ ليس له مكان فى صدرى .. إن صدرى مشغول ..كما ترى ..
وطويت العقد فى جيبى وأنا مسرور بهذه النتيجة .. رغم رفضها العقد.. وبعد ساعة نزلت إلى الطابق الأرضى .. فوجدتها هناك أمام المرآة تتزين ..
وكانت قد خلعت كل عذارها .. وبدا صدرها كله عاريا وهى تمشط شعرها .. ورأتنى وأنا أنظر إليها بقوة .. ولكنها تجاهلت نظراتى .. واستمرت فى زينتها كأنها لا ترانى ..
ولما خرجت من الباب الخارجى حيتنى لأول مرة بهزة من رأسها ..
وفى اليوم التالى .. بقيت فى المطعم حتى وقت تناول الشاى فى الساعة الخامسة .. وعرضت عليها نزهة فى أى مكان تختاره ..
فسألت :
ــ أين .. ؟
ــ نذهب إلى هونج كونج .. ونتعشى فى المطعم الفرنسى ..
ــ أشكرك .. إنك ترى أنى مشغولة جدا .. ليس لدى وقت ..
ــ ولكن أرجو أن تصحبينى فى جولة ولو قصيرة ..
ــ دعنى أفكر فى الأمر إلى الغد ..
وفى الغد قبلت أن تذهب إلى السينما فى هونج كونج ..
وعندما صعدنا من الباخرة .. وجدت المرأة الصينية التى تبيع مجلة مصورة وكان بجوارها الغلام .. ولكننى لم أستطع مسح الحذاء ومعى مس تشن .. فأعطيت الولد دولارا وفرح به كثيرا ..
وكان الفيلم أمريكيا وآفا جاردنر تهز المشاعر .. فأمسكت بيد مس تشن ولكنها سحبت يدها من يدى بسرعة وقالت هامسة :
ــ أرجوك إننا فى هونج كونج .. ولسنا فى لندن أو باريس ..
فتركت يدها .. وجلست صامتا حتى أضيئت الأنوار ..
وأصبحنا نتقابل كثيرا فى الفترة التى تستريح فيها فى الظهر .. فنذهب فى أى جولة نهارية ..
وحدث فى يوم من أيام الأربعاء .. وكنت قد ذهبت من الصباح أشاهد حى الصيادين فى ابردين .. أن عدت إلى المطعم بعد الساعة الرابعة .. فلم أجدها على البنك .. فتصورتها ذهبت إلى بيتها لتستريح .. ولكننى لما نزلت إلى الدور الأرضى .. أغسل وجهى سمعت همسا .. ثم رأيتها فى المطبخ تعانق ذلك الرجل الصينى القبيح الوجه وتأكل شفتيه وقد غفلت عن كل شىء حولها .. وأسرعت صاعدا حتى لا ترانى .. ثم تناولت زجاجة صغيرة من البيرة وخرجت مسرعا من المطعم .. قبل أن تصعد هى ..
وفى اليوم التالى ذهبت عندها لأتغدى .. فتركت البنك وجاءت إلى مائدتى .. على غير عادتها ..
وسألتنى فى دلال :
ــ لم نرك .. أمس .. يا سيد جعفر .. ؟
ــ كنت فى آبردين ..
ــ بصحبة بعض الفتيات طبعا ..
ــ كنت وحدى ..
ــ هذا غير معقول ..
ــ لماذا تتصورين دائما .. أنى كازانوفا ..
ــ لأنى أعرف الرجل من عينيه ..
ــ دعك من هذا الكلام .. لماذا لا تذهبين معى الليلة إلى مرقص فى هونج كونج .. ؟
ــ غدا يمكن أن أذهب معك إلى مكان أجمل من المرقص ..
ــ أين ؟
ــ سنصعد الهضبة معا .. ونركب الترام الجبلى .. ونرى المدينة الحالمة .. فى الليل ..
ثم رأتنى أخرج العقد اللؤلؤى من جيبى الخارجى .. وأضعه فى الجيب الداخلى فسألتنى ..
ــ لماذا تحمله معك .. هل لازلت تشك فيه وتود أن تعرضه على بعض الخبراء .. ؟
فضحكت ..
ــ أبدا .. يحدث كثيرا أن أنسى الدولاب .. فى غرفتى مفتوحا والأحسن أن أحمله معى دائما كما أحمل كل نقودى ..
ــ هذا أحسن .. فقط حاذر من النشالين ..
وتركتها .. وأنا فى غاية السرور ..
والتقينا فى مساء اليوم التالى بعد أن أغلق المطعم أبوابه ..
وعبرنا الخليج .. وكانت الباخرة تصفر وقالت لى هامسة .. ونحن نصعد سلم الميناء الخشبى :
ــ احترس من النشالين .. لأنهم يكثرون فى الموانى ..
فشددت على يدها شاكرا عواطف قلبها .. ورأيت فى مفترق الطرق .. الغلام ماسح الأحذية هناك .. على الرصيف .. وبجواره أمه .. فأعطيته دولارين .. وأدركت المرأة الصينية وغلامها سعادتى فى تلك اللحظة وتبعانى ببصرهما .. وأنا أركب تاكسى مع مس تشن .. إلى محطة .. الترام الجبلى ..
وبعد ثلاث محطات نزلنا ومشينا بين الأشجار .. وأعطتنى هناك شفتيها فى الظلام أكثر من مرة .. وذقت لذة الشهد الخالص من كل مرارة ..
ثم استدرنا مع الطريق الهابط بين الأشجار .. وهناك بصرت شبح الطاهى القبيح الوجه الذى يعمل فى مطعمها ..
ولما اقتربت من الشبح اختفى ثم استبعدت وجوده فى هذه االمنطقة وأبعدته عن ذهنى بعد عشر خطوات .. وقلت لمس تشن وأنا نشوان ..
ــ لماذا لا نقضى الليل معا .. ؟
ــ أوه هذا .. ولكن أين .. ؟
ــ فى الفندق ..
ــ سنذهب إلى مكان أكثر أمانا فى هونج كونج لأنى لا أستطيع أن أقضى الليل معك فى كولون ..
وكدت أطير من السعادة ..
ونزلنا من الهضبة .. ودخلنا فى شارع صغير قليل الضوء .. وكنت بجوارها صامتا حالما بالمتعة التى لا يحصل على مثلها انسان ثم تقدمتنى لترينى الطريق ..
وفجأة حدث شىء كالصاعقة .. رأيت حبلا .. يلتف على عنقى .. ويجذبنى من الخلف .. فسقطت على الأرض وسمعت وأنا أسقط صرخة .. حادة ..
ولم أكن أنا الذى أصرخ .. كان الذى يصرخ شخص غيرى .
وأحسست بالحبل يفلت من عنقى .. ويدا تمسك بى فتنهضنى .. ولما تبينته بعد أن رجعت إلى أنفاسى ألفيته الغلام ما سح الأحذية .. وكان قد شد عنق الرجل الكئيب إلى جذع شجرة .
وكانت مس تشن قد ابتلعها الظلام .. وعربة مغلقة تقبل مصفرة وتلحس بأنوارها القوية أرض الشارع المرصوف ..
وكانت هذه العربة هى الشىء الوحيد الذى يدل على الحياة .. فى هذه المنطقة وكان عقد اللؤلؤ قد سقط من جيبى .. وتناثرت حباته على الأرض ..
فنظرت إليه فى غير اكتراث .. لم يكن يعنينى ان يكون زائفا أو طبيعيا الآن .. فقد لمست اللؤلؤ الحقيقى .. فى الإنسان ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 8/9/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق