الفارس
قصة محمود البدوى
قضى مراد ستة أيام فى هونج كونج يتجول فى شوارعها ويشاهد كل ما فيها من عجائب ..
وفكر فى أن يرى " أبردين " أيضًا قبل سفره ويشاهد هؤلاء الصينيين الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء ، ويتغذى بأكلة السمك الشهية على ظهر السفينة العائمة المشهورة بأطباقها ..
وجلس وحده بعد الغداء على ظهر السفينة يرقب كل ما حوله فى استغراب .. وكانت الشمس ترسل آخر أشعتها الصفراء على الماء .. والزوارق تتأرجح من الموج فى صفوف طويلة منتظمة . وأشرعتها الحمراء منصوبة وقناديلها قد توهجت قبل غروب الشمس ..
وكان المنظر كله يأخذ بلب المشاهد وله طعمه الحلو فى نفسه أكثر من أكلة السمك الشهية فى ساعة الغداء .. فإن كل ما فى الأكلة من طرافة هو اصطياد السمكة .. وهى حية تنتفض وتحاول الفكاك من السنارة .. ثم سحبها سريعًا بحالتها هذه إلى المطبخ وتقديمها بكل ما فيها من حيوية إلى آكلها ..
نسى أكلة السمك ومشهياتها وأخذ يتطلع إلى ما حوله وكانت المنازل القائمة على التل تموج بالغسيل المنشور ..
وهو يرفرف فى بياض ناصع ، ويغطى عينى المشاهد فى دفعة واحدة .. كأنما تحركت بمفتاح آلى ..
وانطلقت ريح الشتاء تهب بعنف فأخذت الزوارق تتراقص وتتلاعب قناديلها مع الموج ..
وكان مراد قد جاء إلى السفينة بزورق تحركه فتاة صينية ورغم أن الصينيات يغلب عليهن قصر القامة .. ولكن هذه كانت طويلة ملساء العود .. وفى فتحة عينيها الجانبية الجمال الصينى الآسر ..
ومع أنها بطيئة الحركة والفتيات الأخريات العاملات فى الزوارق كن يسبقنها فى كل جولة .. ولكن مراد اختارها هى من بينهن جميعًا وانتظرها حتى رست أمامه ..
وقالت له بإنجليزية سليمة بعد أن نقلته إلى السفينة :
ــ متى تعود .. ؟
ــ بعد ساعتين ..
ــ نادنى وسأظل قريبة منك ..
ــ يسرنى هذا ..
وابتعدت وجلس إلى طاولة السفينة وهو يلاحقها بنظره ، كانت تحرك زورقها بالمدراة من الخلف وهى واقفة منتصبة القامة وقد غطت شعرها الأسود الطويل بقبعة كبيرة تقيها المطر والريح .. وغطت صدرها بصدار ضم كل عظمها ولحمها بإحكام .. ولكنه أبرز نهديها واستدارة كتفيها فكأنما كشف الصدار عن المحاسن بدلاً من أن يغطيها ..
وتحت هذا الصدار سروال طويل يصل إلى قدميها مما اعتادت الملاحات لبسه فى هذه الزوارق ..
ولكنهن إذا خرجن من الماء إلى الأرض لبسن الجونلة المفتوحة من الجانبين ككل الصينيات فى هونج كونج .. وأحكمن دثار الصدر ..
ورآها تجلس فى ضباب الغسق وقد تركت الزورق لفعل الموج والريح ..
وبعد أكلة السمك أسف لأنه لم يركب معها على التو ويعود .. ولماذا قال لها بعد ساعتين ولا شىء جديد سيراه وهو جالس وحده وقد خلت السفينة من روادها وتغير الجو فجأة ..
وفى الوقت المحدد جاءت هى ورست تحته قبل أن يشير إليها .. وقفز إلى الزورق .. وكانت قد أعدت له فى المؤخرة مكانًا مريحًا غطته بتندة ليكون بنجوة من الريح ..
وعندما جلس وحركت الزورق رآها بصورة جديدة .. البنطلون الطويل الأزرق والسترة من لونه والصدار الأحمر الضاغط ..!
واتجهت سريعًا إلى الشاطئ والحركة إلى هنا لا تأخذ وقتًا طويلاً ..
قال لها :
ــ أريد أن أخرج إلى البحر الواسع وأرى الخليج .. فبوغتت بهذا الطلب وتجهم وجهها رغم دماثة طباعها ..
وقالت بنبرة استنكار ..
ــ فى هذا الجو ..؟!
ــ أجل أرجوك وأنا لا أجىء إلى هنا كل يوم ..
ــ كما تحب ..
وكانت سحابة من الامتعاض لا تزال على وجهها .. وحولت الزورق إلى الخليج ثم جلست تصنع له الشاى وقدمت له الكوب ساخنًا ..
ــ سيجعلك تشعر بالدفء .
وذاقه وقال :
ــ جميل وفيه سكر أيضًا ..
ــ أجل إننا نشربه بالسكر كالإنجليز هنا ..
ــ ولكن فى الصين الأم لا يشربونه بالسكر ..
ــ هل كنت هناك ..؟
ــ نعم عملت سنتين فى بكين ..
ــ فى التجارة ..؟
ــ فى السفارة ..
ــ هل أنت سفير .. ؟
ــ أقل من ذلك بكثير مجرد موظف صغير ..
ــ لا تقل هذا بل أنت كبير وكبير ..
ــ شكرًا لهذا الإطراء ..
وسألته :
ــ أين ذهب صاحبك .. ؟
ــ لم يكن معى صحاب ..!
ــ ولكنى رأيت جنتلمانًا بصحبتك على ظهر المركب ..
وأدرك أنها كانت تراقبه من عرض البحر ..
ــ إنه سائح وكان يسألنى عن الجو فى نيودلهى فى هذا الفصل من السنة لأنه ينوى الذهاب إلى هناك ..
ــ وأنت ..؟
ــ وأنا ذاهب إلى طوكيو ..
ــ جميلة جميلة ما أسعدك بالعمل فيها ..
واشتدت الريح وتأرجح الزورق .. وسألته :
ــ أتعود ..؟
ــ أبدًا ..
وتراقصت الزوارق القريبة والبعيدة على سطح الماء وأصبح الماء كله أنوارًا تتراقص وتذهب وتجىء تبعًا لحركة الريح ودفعها للزوارق ..
هؤلاء هم الناس الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..
وسألها :
ــ هل ولدت هنا .. ؟
ــ أجل ..
وتركت ما فى يدها وجاءت وجلست بجانبه ..
وقالت :
ــ شاى آخر .. ؟
ــ لا شربت ما فيه الكفاية ..
ــ نبيذ .. ؟
ــ شكرًا ..
ــ لماذا لم تحمل فى يدك معطفًا .. الجو متقلب .. ؟
ــ لم أكن أتصوره سيصل إلى هذه الدرجة من السوء ..
وفجأة ظهر شىء فى المقدمة جعله يفتح عينيه فى عجب .. خرج طفل صغير من بطن الزورق يمسح عينيه .. ونظر مراد إليه طويلاً وفهم ..
ــ طفلك .. ؟
ــ نعم وكان نائمًا وأيقظه الريح ..
وتحركت إليه واحتضنته وقدمت له الشاى ..
فقال لها مراد بابتسامة :
ــ الشاى سيجعله لا ينام ..
ــ وأنا أحبه ساهرًا ..
وابتسمت بتوريه ..
ــ جميل مثل أمه ..
ــ شكرًا ولماذا لا يكون مثل أبيه .. ؟
ــ لم أر والده بعد ..
ــ ولن تراه ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سافر بعيدًا بعيدًا ..
وفتح الطفل عينيه وأخذ ينظر إلى الغريب بفضول ثم بغضب ..
فقالت الفتاة تخاطب طفلها بالإنجليزية :
ــ والآن أيها الفارس أنت فى مبارزة مع الغريب .. مع هذا الجنتلمان .. وأيكما يفوز فى المبارزة سيظفر بالأنثى ..
وضحك مراد وقال لها برقة :
ــ لا داعى للمبارزة وأنا منهزم ومنسحب من أول جولة ..
ــ ولماذا هكذا دون صراع .. ؟ أنا أحب أن تتبارزا .. !
ــ واحتضنت طفلها وترقرقت فى عينيها الدموع ..
وقالت فى حزن :
ــ كلما فكرت أن أعيش لحظات لنفسى أجده صاحيًا ..
ونكس مراد رأسه وقال بصوت فيه بعض ما فى نفسها من مرارة :
ــ تلك ضريبة الأم .. وأين تذهبين منها ويكفيك فخرًا أنك مطوقة بها ..
وكان يود أن يقول لها إنه أكثر منها لوعة وعذابًا ولكنه أمسك .. ورأت فى وجهه الشىء الذى لا تحب أن تراه فى وجه المسافر .. المسافر الذى سافر ليتمتع بمباهج الحياة وينسى متاعبها فى الدنيا الجديدة ..
وسألته لتغير من تسلسل خواطره :
ــ ما الذى كان يريده منك هذا الرجل على الساحل ولماذا ثار غضبك .. ؟
ــ لقد طالعنى بصف من الأسنان الذهبية وعرض علىَّ أن أركب الركشا .. فقلت له إننى لا أركب عربة يجرها إنسان .. وكرر الطلب فأثارنى ..
ــ ولكنك مخطئ ، ففى داخل العربة ستجد حسناء منتظرة وتسليك فى الطريق .. !
ــ حقًا ..؟! لو علمت هذا لركبت على الفور .. !
وضحكا ..
وأحسا بالمطر يهطل بغزارة فتركا سطح الزورق وجلسا متجاورين تحت التندة بعد أن غطت طفلها ولكنه ظل مفتوح العينين يلاحظ الغريب بفضول ..
وجاءت الفتاة بدثار من الصوف وطوقت به مراد وقالت :
ــ إن هذا بدل المعطف ..
ــ هذا كرم منك لم أعهد مثله ، ولا أدرى كيف أشكرك ..
واشتد المطر واكفهر الجو فغطت الزورق كله بالمشمع السميك وجلسا يرقبان الليل ..
وسألته وهى تعطيه كوبًا آخر من الشاى ..
ــ أين تقيم ..؟
ــ فى الجولون جات ..
ــ إنها ممتلئة بالجنود الأمريكيين .. وكيف تعيش مع صخبهم .. ؟ إنهم يسكرون ويسكرون وشبح حرب فيتنام يطاردهم .. فهم دومًا فى رعب وصخب ورغم مضى سنوات طويلة على انتهاء الحرب ولكن الشبح يعود بكل ما فيه من رعب ..
ــ فى قولك الحق . ولكنى نزلت من الطائرة إليها مباشرة .. دلنى عليها زميل ولم يكن عندى وقت للاختيار ..
ونظر إليها طويلاً وتردد قبل أن يلقى السؤال ثم ألقاه :
ــ ألا توجد غرفة مفروشة هنا على الساحل فى هذه البيوت .. ؟
وضحكت ..
ــ لماذا تضحكين .. ؟
ــ إن الصين أكثر منكم شرقية ومراعاة التقاليد .. هل تؤجر أنت غرفة فى بيتك لغريب .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ وكذلك الصينى لا يؤجر غرفة من مسكنه قط وإنما يمكن أن تجد هذه الغرفة عند الأجانب الذين يقيمون فى هونج كونج أو كولون ، أما عند الصينيين فلا ..
ــ فهمت .. فهمت ..
ــ وأنذر الجو بالعواصف وحركت هى المدراة من الخلف ..
وسألته :
ــ ألا تفكر فى العودة ..
ــ أبدًا سأقضى الليل هكذا فقد تقطعت بى الأسباب إلى كولون .. الباخرة التى تعبر إلى هناك أحسبها توقفت فى هذه الساعة ..
وتركت المدراة وجلست بجانب طفلها بعد أن غطته ولفته جيدًا ..
وكان المطر لتحركها وفعل الريح قد بلل صدارها .. فقال لها مراد :
ــ إن هذا سيئ ويعرضك لالتهاب الرئة فأخلعيه وألبسى غيره ..
ــ سأفعل هذا ولكن أدر وجهك أولاً والأحسن أن أغطيك ..
وغطته فضحك ..
وبحرص الصينية التى لا تحب أن تكشف صدرها لأحد ، وقد تكشف فخذيها فى الطريق بالجونلة المفتوحة فإنها خلعت الصدار بسرعة ولبست غيره ..
وقالت ضاحكة :
ــ الآن يمكنك أن تنظر ..
ــ أنا لا أرى شيئًا إلا وهج عينيك .. فالظلام تراكب وقد خرجنا إلى عرض البحر وبعدنا عن الزوارق ..
ــ نعم وهذا ما رغبت فيه ..
وسألها :
ــ منذ مدة تعملين فى البحر .. ؟
ــ قبل أن يولد هذا ..
وأشارت إلى طفلها ..
ــ والعمل مربح .. ؟
ــ هذه حرفة الأجداد منذ مئات السنين فلا يحسن القيام بها سوانا فى طول الأرض وعرضها .. انظر أين نحن الآن من الشاطئ ومن الموج والمطر والريح ولو كان فى هذا المكان ملاح غير صينى لابتلعك الموج من أول غمزة فى مثل هذا الزورق الصغير .. ولكنها حرفتنا وفننا ..
وشعر بها تزهو على البحر والموج والريح والعواصف .. شعر بها فوق كل تقلبات الجو وتقلبات السحاب كجنية فى يدها خاتم السحر .. فلا شىء يروعها ولا شىء يفزعها ..
ولا يدرى لماذا فكر فى هذه اللحظة فى النقود التى سيعطيها لها مقابل كل هذا التعب وتحسس الدولارات الهونج كونجية ..
وقال لنفسه : إن لم تكن كفاية سيعطيها جنيهات إنجليزية فلا يغمط حقها أبدًا ..
* * *
ورآها فجأة متجهمة تنظر إلى موقع من البحر وقد علا وجهها الرعب ، ونظر حيث تنظر فلم ير غير سواد الفحم وزبد البحر قد تحول إلى مداد ودوامات تلف وتدور .. وظلت هى على حالها من الفزع الأخرس ..
فتناول يدها وقال لها بعطف :
ــ اجلسى لقد تعبت وسنخرج وحدنا من هذه الدوامة سيخرجنا الموج ..
ــ إن الدوامة لا تخيفنى وقد اعتدت عليها وعلى الخروج منها ، ولكننى تذكرت فى هذا الموقع شيئًا حسبتنى نسيته لمر الأيام والأعوام ولكننى أدركت الآن أن هذا توهم .. فالذى حدث سيظل محفورًا فى أعماق نفوسنا مهما مرت عليه الأيام ومهما حاولنا أن نطمسه أو نداريه أو نلف حوله ونغطيه ..
ونظرت إلى الطفل وأحكمت غطاءه وشربت جرعات من النبيذ ..
وسألت مراد :
ــ أتحب أن تشرب .. ؟
ــ سأشرب من قدحك ..
ــ هكذا بسرعة أصبحت ولهانًا ..
ــ نعم .. وفى " هانتشو " ركبت مع فتاة صينية فى زورق فى بحر يغطيه ورق اللوتس وقلت لنفسى هذه أجمل فتاة فى الصين .. فلما جئت أبردين ورأيتك وركبت زورقك قلت لا إن أجمل فتاة فى الدنيا هى صينية هنا فى أبردين ..
ورأى القتامة السوداء تنزاح عن وجهها رويدًا رويدًا وهى تطالعه بعينيها وقد سرت من كلماته ..
وقالت برقة :
ــ لقد طلبت منى فى هذا الليل أن أخرج بالزورق إلى هذا المكان فخرجت من أجلك .. والآن انظر معى إلى فم البحر الواسع إنه يبتلع كل شىء وفى بطنه الأسرار .. أسرار الدنيا .
منذ سبع سنوات وقبل أن يولد هذا الغلام ويوجد وكنت متزوجة حديثًا من " يونج " جاء إلى الشاطئ مثلك تمامًا شاب إنجليزى مهذب ، ونحن نعرف الإنجليز من سحنتهم من أول نظرة .. جاء وكان يتطوح من السكر وطلب منى أن أنقله إلى السفينة وأنا أرفض أن أتعامل مع هذا الصنف من المخلوقات لأنه سيسبب لى متاعب ، فرفضت ولكن صينيًا كهلاً كان على الشاطئ حذرنى من الرفض وقال لى إن أى إنجليزى يمكن أن يسحب منى رخصة الملاحة .. ويسحبها إلى الأبد .. ولمحت والصينى يتحدث ، ظل كونستابل على الشاطئ ، فأركبت هذا المخمور على الفور وابتعدت به عن الزوارق ..
وعند السفينة العائمة لم ينزل إليها .. قال لى إنه يريد أن يرى الخليج فدرت به إلى هناك ..
ولاحظت بعد كل حركة مدراة أن عينيه تلاحقاننى بنظرة فيها من الشهوة ما اختبرت مثلها مرارًا ..
وقال وهو يتطلع إلىّ :
ــ اتركى المدراة وتعالى واجلسى بجانبى ..
ــ لو تركت المدراة سنغرق والبحر عاصف ..
ــ لا يهم لا يهم ..
وكان سكره يزداد ورائحته تغطى رائحة البحر ..
وغاظنى أنه يتصور أننى ما دمت فقيرة فأنا رخيصة وطوع أمره ..
وسألنى :
ــ كم تأخذين فى الجولة إلى السفينة العائمة .. ؟
ــ عشرة دولارات هونج كونجى ..
ــ سأعطيك مائة وألف ألف إذا جلست بجانبى ..
ــ قلت لك إذا تركت الدفة فسنغرق ..
ــ لا يهم لا يهم ..
ــ ما الذى تريده ..
ــ تجلسين معى هنا ..
ــ فى شاطئ استانلى وهو ليس ببعيد وأنت تعرفه جيدًا ، لأنه محرم على سواكم من البشر .. فى هذا الشاطئ تجد أكثر من إنجليزية حسناء يمكن أن تلبى رغباتك ، أما أنا فأشتغل ملاحة .. وأعيش بعرقى ..
ــ ولكنى أريدك أنت ..
ــ هل أحببتنى بسرعة هكذا .. ؟
ــ أجل ..
ــ ولكنى لا أحبك ..
ونفذ هذا الكلام كالسهم فى رأسه المخمور فوقف ومن عينيه يتطاير الشرر .. ولمحت هذا فأخذنى الرعب وأخذت أغير سلوكى وأروضه ..
فقلت له بعذوبة :
ــ هل تريدنى حقًا .. ؟
ــ نعم .. نعم ..
فأخذت فى خلع صدارى وكان لا يزال واقفًا أمامى ، وتحركت وأنا أنزع ملابسى إلى سطح الزورق ، وتحرك معى وأصبحنا عند موضع الدفة ، وألقيت الصدار فى بطن الزورق ، وكنت أود أن أتحرك بيدى بسهولة ، وجمحت به الشهوة ، وشرع ذراعيه ليطوقنى ، وفى هذه اللحظة الخاطفة ، دفعته بكل قوتى وغضبى وكرهى إلى الماء .. فغاص ثم ظهر ثم غاص .. وجلست ساعة أرتعش من الرعب كالمشلولة التى تعجز عن كل حركة ..
ثم حركت المدراة وابتعدت حتى وصلت إلى الشاطئ ..
ومرت ساعات .. وأيام .. وأسابيع دون أن أسمع خبرًا .. أو يوجه إلىّ سؤال ..
وفى كل يوم كنت أتجه بالزورق إلى نفس المكان فى الليل .. دون أن يدرى أحد مقصدى ..
ولكنه لم يطف ولم يظهر قط .. لا على الشاطئ ولا فى المدينة .. غرق ..
ــ كيف يغرق والإنجليز جميعًا يجيدون السباحة .. لأنهم بحارة ..؟
ــ ولماذا لا يغرق وقد كان فى كامل ملابسه وفى أشد حالات سكره ..؟!
غرق .. أو لم يغرق .. ولكننى غرقت أنا فى بحر من الحزن .. كل ما فى الأمر أنه تصورنى رخيصة لأننى فقيرة وكان هذا منبع الجرح .. ومنبع الغيظ ، ومحط الإثارة .. ولكن هل يدفع هذا إلى الجريمة ..
يا كنفشيوس العظيم .. إننا جميعًأ حمقى رغم كل تعاليمك وكل عظاتك ..
وبعد هذا بستة أسابيع سافر زوجى " يونج " إلى بانكوك ولم يعد .. ولم أسمع عنه خبرًا .. وقلت لقد جاء القصاص .. إن هذا بذاك ..
وأمسك مراد بيدها وضغط ..
ــ كم أنت مسكينة وشقية وأنا لا أدرى .. ولا أرى فى وجهك إلا الجمال والسكون .. أما روحك المعذبة فقد جهلتها .. فاعذرينى لغباوتى ..
ــ أبدًا .. لا تقل هذا .. لقد استرحت إليك من أول نظرة .. وعندما طلبت منى أن أتجه إلى هنا طاوعتك وغمرنى الاطمئنان وحدثتك بعذابى .. ونفسى تحدثنى بأنى رأيتك فى كل مكان تتجول فيه فى شوارع هونج كونج .. فى الكوين رود .. وفى شارع " دى فو " وفى محل .. " لان كراوفورد " ..
ــ إنى أحمل نفس الإحساس .. لقد كنت معى هناك فى الصين الأم .. وستظلين معى فى كل مكان ..
واتجهت بالزورق إلى الشاطئ ..
وقالت وهى تنظر إلى هناك :
ــ إن والدى ينتظرنا ..
ورأى شيخًا طاعنًا فى السن يقف على الساحل ولا يعبأ بالمطر .. وخرجت " ليانج شان " تحمل طفلها .. تحدثت مع والدها طويلاً ، وهبط الشيخ إلى الزورق وسلم على مراد وأخذ يحادثه بإنجليزية مكسرة الحروف ..
ثم تركه وهو يقول :
ــ سنبحث لك عن مكان تقضى فيه الليل .. لأن ذهابك الآن إلى فندقك أصبح متعذرًا ..
وشكر " مراد " الشيخ بحرارة .. وجلس فى الزورق يرقب ما حوله وقد سرحت به الخواطر .. وامتلأ رأسه بالأفكار .. وعجب لتصاريف الحياة .. مجرد نزهة مع فتاة عاملة على زورق .. ككل فتاة رآها من قبل تعمل فى القطار .. أو فى الباخرة .. أو فى الطائرة .. مجرد نزهة تكشف له عن هذه المأساة ..
إن الفتاة لم تنس قط فعلتها رغم أنها حاولت مرارًا أن تنساها بكل وسيلة ممكنة ، وما الذى فعلته لتنسى ما الذى فعلته ..؟ ما الذى فعلته .. لقد .. لقد .. لا .. لا ..
* * *
استطاعت الفتاة بلباقتها .. وكياستها أن تخلى له الكوخ الخاص بهم .. وتذهب هى ووالدها الشيخ وطفلها إلى جيران من أقربائهم يقضون فيه هذه الليلة ..
* * *
وجلس على فراش من الحرير .. والغرفة مزينة بستر حريرية ومفارش جميلة على المناضد .. ورسوم مطرزة على الحيطان .. والكل بلون واحد ..
وجلسوا معه يسامرونه .. وظل الطفل صاحيًا .. كفارس كما وصفته أمه .. ثم حملته أمه إلى جيرانهم .. وعادت تعد مائدة العشاء ..
وأكل مراد .. بالعصوين .. وكان قد أتقن الأكل بهما فى الصين ، وضحكت الفتاة ووالدها .. لبراعته فى استعمالهما .. وشرب معها النبيذ .. وتحدثوا فى كل شىء .. تحدثوا عن الحروب .. وتحدثوا عن هونج كونج التى سقطت فى يد اليابانيين فى ثلاثة أيام .. ثم استرجعها الإنجليز .. وعادت الدائرة تدور .. وظل الإنجليز فى قصورهم على الشاطئ .. وهم يعيشون ويموتون فى الماء ..
وسأل مراد الشيخ :
ــ أصبحت هذه الحياة سهلة عليكم كما أعتقد وأتقنتموها ..
ــ اعتدنا على هذه الحياة .. وألفناها .. ولم نفكر فى التغيير والعادة حكمها رهيب .. ولم نعد نحس بالهوان ..
ــ من يهن يسهل الهوان عليه ..
ــ ماذا تقول ..؟
ــ هذا شطر بيت من الشعر لأكبر شعرائنا العرب .. ومن الصعب ترجمته بألفاظه لبلاغته .. وسأشرح لك معناه ..
ــ معناه حكمة أزلية .. لقد اعتدنا على العيش فى الماء .. ولم نطلب التغيير ولم نسع إليه .. فبقينا كما كنا ..!
ــ ولماذا لا تخلصكم الصين الأم من احتلال الإنجليز .. ؟
ــ تستطيع الصين الأم أن تفعل هذا .. ولكنها لا تفكر فيه .. لأن هونج كونج هى المنفذ المتدفق لبضائعها .. والذاهب منها إلى كل مكان .. لماذا الحرب والدمار ..؟ وربما وصلنا إلى القنبلة النيترون ونحن لا ندرى .. لماذا كل هذا ونحن نتحرك فى سلام وأمن .. والصينى فى هونج كونج يعمل كالنحلة فى كل الحرف ويتقن فى كل صناعة .. والبلد لحرية التجارة فى رخاء مذهل .. وتفتح ذراعيها لكل سائح ..
وقالت الفتاة بنعومة لوالدها :
ــ السيد " مراد " يريد أن يستريح الآن يا والدى .. ولا يجب الحديث عن الحرب والسياسة .. فهيا .. ليأخذ حظه من النوم ..
* * *
وحياة الشيخ وخرج مع ابنته .. بعد أن أغلقت الفتاة وراءها الباب ..
ولكن مراد لم ينم .. رغم شعوره بالدفء والسكون .. ظل ساهرًا يفكر فى هذه الفتاة .. ظل ساهرًا يفكر فى " ليانج شان " التى عرف اسمها أخيرًا .. ظل يفكر فى كرمها مع فقرها .. فقد أعدت له بيتها الصغير .. تركت له الكوخ .. وذهبت إلى الجيران .. ولولا التقاليد والعادات المتأصلة فيهم .. لضموه إلى أحضانهم .. وناموا معه وهو الغريب تحت سقف واحد ..
لماذا بقى فى هونج كونج كل هذه الأيام .. لأنها فتحت له ذراعيها وهو يهبط من الطائرة .. وخرج من المطار بعد دقيقة .. لم يشعر بأى قيد .. شعر بالحرية التى يحبها كل إنسان .. حتى الإنجليزية المكلفة بالاطلاع على ورقة التطعيم الدولية .. استقبلته بابتسامة ومرح .. كأنها تعرفه من قبل وكأنها تحبه .. ترك الجميلة .. وخرج إلى الشارع .. فوجد الجمال والنظام والعمل .. والعمل بجنون .. وهذه هى الأشياء التى يحبها .. وجد حركة المرور كلها تقف للأطفال الصغار عندما يعبرون الطريق .. هذه هى الحضارة .. حضارة الصين العظيمة منذ آلاف السنين .. برزت .. من وراء القرون ..
* * *
أى خبل لماذا لا ينام .. ؟ هل يترك عمله ويبقى فى هذه المدينة لأنه يحبها .. ولأن فيها فتاة أحبها .. أى جنون .. كيف يترك وطنه الذى رعاه وأطعمه وسقاه وشرب من مائه وتغذى من طينه ..؟ كيف يتركه .. أبدًا .. أبدًا سيعود إليه .. سيعود .. وسينام .. وفى رأسه الحب والجمال .. والسلام .. قنبلة النيترون .. لا .. هيروشيما أخرى لا .. إرهاب .. لا اختطاف طائرات .. لا .. ماذا جرى للشباب فى هذا العصر .. عصابات المافيا .. مارلون براندو .. أعظم الممثلين فى هذا العصر .. المافيا .. لا .. ولكنه مثل أعظم أدواره .. وهل بقيت المافيا بعد التمثيل أم ذهبت .. ؟ لا يدرى .. هل سكر من النبيذ وأصبح يخرف ..
أين ذهبت " ليانج شان " وتركته وحده .. فى الليل والبرد .. والظلام ..
* * *
وقبل أن ينبلج الصبح شعر بأنفاسها .. ورضاب شفتيها على شفتيه .. وشدها إليه .. وشعر بأنه يغوص فى ظلام هذا الوجود الذى لا يعرف ولا يدرك معناه .. ولا يدرى لماذا وجد فيه ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 28/12/1981 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
قصة محمود البدوى
قضى مراد ستة أيام فى هونج كونج يتجول فى شوارعها ويشاهد كل ما فيها من عجائب ..
وفكر فى أن يرى " أبردين " أيضًا قبل سفره ويشاهد هؤلاء الصينيين الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء ، ويتغذى بأكلة السمك الشهية على ظهر السفينة العائمة المشهورة بأطباقها ..
وجلس وحده بعد الغداء على ظهر السفينة يرقب كل ما حوله فى استغراب .. وكانت الشمس ترسل آخر أشعتها الصفراء على الماء .. والزوارق تتأرجح من الموج فى صفوف طويلة منتظمة . وأشرعتها الحمراء منصوبة وقناديلها قد توهجت قبل غروب الشمس ..
وكان المنظر كله يأخذ بلب المشاهد وله طعمه الحلو فى نفسه أكثر من أكلة السمك الشهية فى ساعة الغداء .. فإن كل ما فى الأكلة من طرافة هو اصطياد السمكة .. وهى حية تنتفض وتحاول الفكاك من السنارة .. ثم سحبها سريعًا بحالتها هذه إلى المطبخ وتقديمها بكل ما فيها من حيوية إلى آكلها ..
نسى أكلة السمك ومشهياتها وأخذ يتطلع إلى ما حوله وكانت المنازل القائمة على التل تموج بالغسيل المنشور ..
وهو يرفرف فى بياض ناصع ، ويغطى عينى المشاهد فى دفعة واحدة .. كأنما تحركت بمفتاح آلى ..
وانطلقت ريح الشتاء تهب بعنف فأخذت الزوارق تتراقص وتتلاعب قناديلها مع الموج ..
وكان مراد قد جاء إلى السفينة بزورق تحركه فتاة صينية ورغم أن الصينيات يغلب عليهن قصر القامة .. ولكن هذه كانت طويلة ملساء العود .. وفى فتحة عينيها الجانبية الجمال الصينى الآسر ..
ومع أنها بطيئة الحركة والفتيات الأخريات العاملات فى الزوارق كن يسبقنها فى كل جولة .. ولكن مراد اختارها هى من بينهن جميعًا وانتظرها حتى رست أمامه ..
وقالت له بإنجليزية سليمة بعد أن نقلته إلى السفينة :
ــ متى تعود .. ؟
ــ بعد ساعتين ..
ــ نادنى وسأظل قريبة منك ..
ــ يسرنى هذا ..
وابتعدت وجلس إلى طاولة السفينة وهو يلاحقها بنظره ، كانت تحرك زورقها بالمدراة من الخلف وهى واقفة منتصبة القامة وقد غطت شعرها الأسود الطويل بقبعة كبيرة تقيها المطر والريح .. وغطت صدرها بصدار ضم كل عظمها ولحمها بإحكام .. ولكنه أبرز نهديها واستدارة كتفيها فكأنما كشف الصدار عن المحاسن بدلاً من أن يغطيها ..
وتحت هذا الصدار سروال طويل يصل إلى قدميها مما اعتادت الملاحات لبسه فى هذه الزوارق ..
ولكنهن إذا خرجن من الماء إلى الأرض لبسن الجونلة المفتوحة من الجانبين ككل الصينيات فى هونج كونج .. وأحكمن دثار الصدر ..
ورآها تجلس فى ضباب الغسق وقد تركت الزورق لفعل الموج والريح ..
وبعد أكلة السمك أسف لأنه لم يركب معها على التو ويعود .. ولماذا قال لها بعد ساعتين ولا شىء جديد سيراه وهو جالس وحده وقد خلت السفينة من روادها وتغير الجو فجأة ..
وفى الوقت المحدد جاءت هى ورست تحته قبل أن يشير إليها .. وقفز إلى الزورق .. وكانت قد أعدت له فى المؤخرة مكانًا مريحًا غطته بتندة ليكون بنجوة من الريح ..
وعندما جلس وحركت الزورق رآها بصورة جديدة .. البنطلون الطويل الأزرق والسترة من لونه والصدار الأحمر الضاغط ..!
واتجهت سريعًا إلى الشاطئ والحركة إلى هنا لا تأخذ وقتًا طويلاً ..
قال لها :
ــ أريد أن أخرج إلى البحر الواسع وأرى الخليج .. فبوغتت بهذا الطلب وتجهم وجهها رغم دماثة طباعها ..
وقالت بنبرة استنكار ..
ــ فى هذا الجو ..؟!
ــ أجل أرجوك وأنا لا أجىء إلى هنا كل يوم ..
ــ كما تحب ..
وكانت سحابة من الامتعاض لا تزال على وجهها .. وحولت الزورق إلى الخليج ثم جلست تصنع له الشاى وقدمت له الكوب ساخنًا ..
ــ سيجعلك تشعر بالدفء .
وذاقه وقال :
ــ جميل وفيه سكر أيضًا ..
ــ أجل إننا نشربه بالسكر كالإنجليز هنا ..
ــ ولكن فى الصين الأم لا يشربونه بالسكر ..
ــ هل كنت هناك ..؟
ــ نعم عملت سنتين فى بكين ..
ــ فى التجارة ..؟
ــ فى السفارة ..
ــ هل أنت سفير .. ؟
ــ أقل من ذلك بكثير مجرد موظف صغير ..
ــ لا تقل هذا بل أنت كبير وكبير ..
ــ شكرًا لهذا الإطراء ..
وسألته :
ــ أين ذهب صاحبك .. ؟
ــ لم يكن معى صحاب ..!
ــ ولكنى رأيت جنتلمانًا بصحبتك على ظهر المركب ..
وأدرك أنها كانت تراقبه من عرض البحر ..
ــ إنه سائح وكان يسألنى عن الجو فى نيودلهى فى هذا الفصل من السنة لأنه ينوى الذهاب إلى هناك ..
ــ وأنت ..؟
ــ وأنا ذاهب إلى طوكيو ..
ــ جميلة جميلة ما أسعدك بالعمل فيها ..
واشتدت الريح وتأرجح الزورق .. وسألته :
ــ أتعود ..؟
ــ أبدًا ..
وتراقصت الزوارق القريبة والبعيدة على سطح الماء وأصبح الماء كله أنوارًا تتراقص وتذهب وتجىء تبعًا لحركة الريح ودفعها للزوارق ..
هؤلاء هم الناس الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..
وسألها :
ــ هل ولدت هنا .. ؟
ــ أجل ..
وتركت ما فى يدها وجاءت وجلست بجانبه ..
وقالت :
ــ شاى آخر .. ؟
ــ لا شربت ما فيه الكفاية ..
ــ نبيذ .. ؟
ــ شكرًا ..
ــ لماذا لم تحمل فى يدك معطفًا .. الجو متقلب .. ؟
ــ لم أكن أتصوره سيصل إلى هذه الدرجة من السوء ..
وفجأة ظهر شىء فى المقدمة جعله يفتح عينيه فى عجب .. خرج طفل صغير من بطن الزورق يمسح عينيه .. ونظر مراد إليه طويلاً وفهم ..
ــ طفلك .. ؟
ــ نعم وكان نائمًا وأيقظه الريح ..
وتحركت إليه واحتضنته وقدمت له الشاى ..
فقال لها مراد بابتسامة :
ــ الشاى سيجعله لا ينام ..
ــ وأنا أحبه ساهرًا ..
وابتسمت بتوريه ..
ــ جميل مثل أمه ..
ــ شكرًا ولماذا لا يكون مثل أبيه .. ؟
ــ لم أر والده بعد ..
ــ ولن تراه ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سافر بعيدًا بعيدًا ..
وفتح الطفل عينيه وأخذ ينظر إلى الغريب بفضول ثم بغضب ..
فقالت الفتاة تخاطب طفلها بالإنجليزية :
ــ والآن أيها الفارس أنت فى مبارزة مع الغريب .. مع هذا الجنتلمان .. وأيكما يفوز فى المبارزة سيظفر بالأنثى ..
وضحك مراد وقال لها برقة :
ــ لا داعى للمبارزة وأنا منهزم ومنسحب من أول جولة ..
ــ ولماذا هكذا دون صراع .. ؟ أنا أحب أن تتبارزا .. !
ــ واحتضنت طفلها وترقرقت فى عينيها الدموع ..
وقالت فى حزن :
ــ كلما فكرت أن أعيش لحظات لنفسى أجده صاحيًا ..
ونكس مراد رأسه وقال بصوت فيه بعض ما فى نفسها من مرارة :
ــ تلك ضريبة الأم .. وأين تذهبين منها ويكفيك فخرًا أنك مطوقة بها ..
وكان يود أن يقول لها إنه أكثر منها لوعة وعذابًا ولكنه أمسك .. ورأت فى وجهه الشىء الذى لا تحب أن تراه فى وجه المسافر .. المسافر الذى سافر ليتمتع بمباهج الحياة وينسى متاعبها فى الدنيا الجديدة ..
وسألته لتغير من تسلسل خواطره :
ــ ما الذى كان يريده منك هذا الرجل على الساحل ولماذا ثار غضبك .. ؟
ــ لقد طالعنى بصف من الأسنان الذهبية وعرض علىَّ أن أركب الركشا .. فقلت له إننى لا أركب عربة يجرها إنسان .. وكرر الطلب فأثارنى ..
ــ ولكنك مخطئ ، ففى داخل العربة ستجد حسناء منتظرة وتسليك فى الطريق .. !
ــ حقًا ..؟! لو علمت هذا لركبت على الفور .. !
وضحكا ..
وأحسا بالمطر يهطل بغزارة فتركا سطح الزورق وجلسا متجاورين تحت التندة بعد أن غطت طفلها ولكنه ظل مفتوح العينين يلاحظ الغريب بفضول ..
وجاءت الفتاة بدثار من الصوف وطوقت به مراد وقالت :
ــ إن هذا بدل المعطف ..
ــ هذا كرم منك لم أعهد مثله ، ولا أدرى كيف أشكرك ..
واشتد المطر واكفهر الجو فغطت الزورق كله بالمشمع السميك وجلسا يرقبان الليل ..
وسألته وهى تعطيه كوبًا آخر من الشاى ..
ــ أين تقيم ..؟
ــ فى الجولون جات ..
ــ إنها ممتلئة بالجنود الأمريكيين .. وكيف تعيش مع صخبهم .. ؟ إنهم يسكرون ويسكرون وشبح حرب فيتنام يطاردهم .. فهم دومًا فى رعب وصخب ورغم مضى سنوات طويلة على انتهاء الحرب ولكن الشبح يعود بكل ما فيه من رعب ..
ــ فى قولك الحق . ولكنى نزلت من الطائرة إليها مباشرة .. دلنى عليها زميل ولم يكن عندى وقت للاختيار ..
ونظر إليها طويلاً وتردد قبل أن يلقى السؤال ثم ألقاه :
ــ ألا توجد غرفة مفروشة هنا على الساحل فى هذه البيوت .. ؟
وضحكت ..
ــ لماذا تضحكين .. ؟
ــ إن الصين أكثر منكم شرقية ومراعاة التقاليد .. هل تؤجر أنت غرفة فى بيتك لغريب .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ وكذلك الصينى لا يؤجر غرفة من مسكنه قط وإنما يمكن أن تجد هذه الغرفة عند الأجانب الذين يقيمون فى هونج كونج أو كولون ، أما عند الصينيين فلا ..
ــ فهمت .. فهمت ..
ــ وأنذر الجو بالعواصف وحركت هى المدراة من الخلف ..
وسألته :
ــ ألا تفكر فى العودة ..
ــ أبدًا سأقضى الليل هكذا فقد تقطعت بى الأسباب إلى كولون .. الباخرة التى تعبر إلى هناك أحسبها توقفت فى هذه الساعة ..
وتركت المدراة وجلست بجانب طفلها بعد أن غطته ولفته جيدًا ..
وكان المطر لتحركها وفعل الريح قد بلل صدارها .. فقال لها مراد :
ــ إن هذا سيئ ويعرضك لالتهاب الرئة فأخلعيه وألبسى غيره ..
ــ سأفعل هذا ولكن أدر وجهك أولاً والأحسن أن أغطيك ..
وغطته فضحك ..
وبحرص الصينية التى لا تحب أن تكشف صدرها لأحد ، وقد تكشف فخذيها فى الطريق بالجونلة المفتوحة فإنها خلعت الصدار بسرعة ولبست غيره ..
وقالت ضاحكة :
ــ الآن يمكنك أن تنظر ..
ــ أنا لا أرى شيئًا إلا وهج عينيك .. فالظلام تراكب وقد خرجنا إلى عرض البحر وبعدنا عن الزوارق ..
ــ نعم وهذا ما رغبت فيه ..
وسألها :
ــ منذ مدة تعملين فى البحر .. ؟
ــ قبل أن يولد هذا ..
وأشارت إلى طفلها ..
ــ والعمل مربح .. ؟
ــ هذه حرفة الأجداد منذ مئات السنين فلا يحسن القيام بها سوانا فى طول الأرض وعرضها .. انظر أين نحن الآن من الشاطئ ومن الموج والمطر والريح ولو كان فى هذا المكان ملاح غير صينى لابتلعك الموج من أول غمزة فى مثل هذا الزورق الصغير .. ولكنها حرفتنا وفننا ..
وشعر بها تزهو على البحر والموج والريح والعواصف .. شعر بها فوق كل تقلبات الجو وتقلبات السحاب كجنية فى يدها خاتم السحر .. فلا شىء يروعها ولا شىء يفزعها ..
ولا يدرى لماذا فكر فى هذه اللحظة فى النقود التى سيعطيها لها مقابل كل هذا التعب وتحسس الدولارات الهونج كونجية ..
وقال لنفسه : إن لم تكن كفاية سيعطيها جنيهات إنجليزية فلا يغمط حقها أبدًا ..
* * *
ورآها فجأة متجهمة تنظر إلى موقع من البحر وقد علا وجهها الرعب ، ونظر حيث تنظر فلم ير غير سواد الفحم وزبد البحر قد تحول إلى مداد ودوامات تلف وتدور .. وظلت هى على حالها من الفزع الأخرس ..
فتناول يدها وقال لها بعطف :
ــ اجلسى لقد تعبت وسنخرج وحدنا من هذه الدوامة سيخرجنا الموج ..
ــ إن الدوامة لا تخيفنى وقد اعتدت عليها وعلى الخروج منها ، ولكننى تذكرت فى هذا الموقع شيئًا حسبتنى نسيته لمر الأيام والأعوام ولكننى أدركت الآن أن هذا توهم .. فالذى حدث سيظل محفورًا فى أعماق نفوسنا مهما مرت عليه الأيام ومهما حاولنا أن نطمسه أو نداريه أو نلف حوله ونغطيه ..
ونظرت إلى الطفل وأحكمت غطاءه وشربت جرعات من النبيذ ..
وسألت مراد :
ــ أتحب أن تشرب .. ؟
ــ سأشرب من قدحك ..
ــ هكذا بسرعة أصبحت ولهانًا ..
ــ نعم .. وفى " هانتشو " ركبت مع فتاة صينية فى زورق فى بحر يغطيه ورق اللوتس وقلت لنفسى هذه أجمل فتاة فى الصين .. فلما جئت أبردين ورأيتك وركبت زورقك قلت لا إن أجمل فتاة فى الدنيا هى صينية هنا فى أبردين ..
ورأى القتامة السوداء تنزاح عن وجهها رويدًا رويدًا وهى تطالعه بعينيها وقد سرت من كلماته ..
وقالت برقة :
ــ لقد طلبت منى فى هذا الليل أن أخرج بالزورق إلى هذا المكان فخرجت من أجلك .. والآن انظر معى إلى فم البحر الواسع إنه يبتلع كل شىء وفى بطنه الأسرار .. أسرار الدنيا .
منذ سبع سنوات وقبل أن يولد هذا الغلام ويوجد وكنت متزوجة حديثًا من " يونج " جاء إلى الشاطئ مثلك تمامًا شاب إنجليزى مهذب ، ونحن نعرف الإنجليز من سحنتهم من أول نظرة .. جاء وكان يتطوح من السكر وطلب منى أن أنقله إلى السفينة وأنا أرفض أن أتعامل مع هذا الصنف من المخلوقات لأنه سيسبب لى متاعب ، فرفضت ولكن صينيًا كهلاً كان على الشاطئ حذرنى من الرفض وقال لى إن أى إنجليزى يمكن أن يسحب منى رخصة الملاحة .. ويسحبها إلى الأبد .. ولمحت والصينى يتحدث ، ظل كونستابل على الشاطئ ، فأركبت هذا المخمور على الفور وابتعدت به عن الزوارق ..
وعند السفينة العائمة لم ينزل إليها .. قال لى إنه يريد أن يرى الخليج فدرت به إلى هناك ..
ولاحظت بعد كل حركة مدراة أن عينيه تلاحقاننى بنظرة فيها من الشهوة ما اختبرت مثلها مرارًا ..
وقال وهو يتطلع إلىّ :
ــ اتركى المدراة وتعالى واجلسى بجانبى ..
ــ لو تركت المدراة سنغرق والبحر عاصف ..
ــ لا يهم لا يهم ..
وكان سكره يزداد ورائحته تغطى رائحة البحر ..
وغاظنى أنه يتصور أننى ما دمت فقيرة فأنا رخيصة وطوع أمره ..
وسألنى :
ــ كم تأخذين فى الجولة إلى السفينة العائمة .. ؟
ــ عشرة دولارات هونج كونجى ..
ــ سأعطيك مائة وألف ألف إذا جلست بجانبى ..
ــ قلت لك إذا تركت الدفة فسنغرق ..
ــ لا يهم لا يهم ..
ــ ما الذى تريده ..
ــ تجلسين معى هنا ..
ــ فى شاطئ استانلى وهو ليس ببعيد وأنت تعرفه جيدًا ، لأنه محرم على سواكم من البشر .. فى هذا الشاطئ تجد أكثر من إنجليزية حسناء يمكن أن تلبى رغباتك ، أما أنا فأشتغل ملاحة .. وأعيش بعرقى ..
ــ ولكنى أريدك أنت ..
ــ هل أحببتنى بسرعة هكذا .. ؟
ــ أجل ..
ــ ولكنى لا أحبك ..
ونفذ هذا الكلام كالسهم فى رأسه المخمور فوقف ومن عينيه يتطاير الشرر .. ولمحت هذا فأخذنى الرعب وأخذت أغير سلوكى وأروضه ..
فقلت له بعذوبة :
ــ هل تريدنى حقًا .. ؟
ــ نعم .. نعم ..
فأخذت فى خلع صدارى وكان لا يزال واقفًا أمامى ، وتحركت وأنا أنزع ملابسى إلى سطح الزورق ، وتحرك معى وأصبحنا عند موضع الدفة ، وألقيت الصدار فى بطن الزورق ، وكنت أود أن أتحرك بيدى بسهولة ، وجمحت به الشهوة ، وشرع ذراعيه ليطوقنى ، وفى هذه اللحظة الخاطفة ، دفعته بكل قوتى وغضبى وكرهى إلى الماء .. فغاص ثم ظهر ثم غاص .. وجلست ساعة أرتعش من الرعب كالمشلولة التى تعجز عن كل حركة ..
ثم حركت المدراة وابتعدت حتى وصلت إلى الشاطئ ..
ومرت ساعات .. وأيام .. وأسابيع دون أن أسمع خبرًا .. أو يوجه إلىّ سؤال ..
وفى كل يوم كنت أتجه بالزورق إلى نفس المكان فى الليل .. دون أن يدرى أحد مقصدى ..
ولكنه لم يطف ولم يظهر قط .. لا على الشاطئ ولا فى المدينة .. غرق ..
ــ كيف يغرق والإنجليز جميعًا يجيدون السباحة .. لأنهم بحارة ..؟
ــ ولماذا لا يغرق وقد كان فى كامل ملابسه وفى أشد حالات سكره ..؟!
غرق .. أو لم يغرق .. ولكننى غرقت أنا فى بحر من الحزن .. كل ما فى الأمر أنه تصورنى رخيصة لأننى فقيرة وكان هذا منبع الجرح .. ومنبع الغيظ ، ومحط الإثارة .. ولكن هل يدفع هذا إلى الجريمة ..
يا كنفشيوس العظيم .. إننا جميعًأ حمقى رغم كل تعاليمك وكل عظاتك ..
وبعد هذا بستة أسابيع سافر زوجى " يونج " إلى بانكوك ولم يعد .. ولم أسمع عنه خبرًا .. وقلت لقد جاء القصاص .. إن هذا بذاك ..
وأمسك مراد بيدها وضغط ..
ــ كم أنت مسكينة وشقية وأنا لا أدرى .. ولا أرى فى وجهك إلا الجمال والسكون .. أما روحك المعذبة فقد جهلتها .. فاعذرينى لغباوتى ..
ــ أبدًا .. لا تقل هذا .. لقد استرحت إليك من أول نظرة .. وعندما طلبت منى أن أتجه إلى هنا طاوعتك وغمرنى الاطمئنان وحدثتك بعذابى .. ونفسى تحدثنى بأنى رأيتك فى كل مكان تتجول فيه فى شوارع هونج كونج .. فى الكوين رود .. وفى شارع " دى فو " وفى محل .. " لان كراوفورد " ..
ــ إنى أحمل نفس الإحساس .. لقد كنت معى هناك فى الصين الأم .. وستظلين معى فى كل مكان ..
واتجهت بالزورق إلى الشاطئ ..
وقالت وهى تنظر إلى هناك :
ــ إن والدى ينتظرنا ..
ورأى شيخًا طاعنًا فى السن يقف على الساحل ولا يعبأ بالمطر .. وخرجت " ليانج شان " تحمل طفلها .. تحدثت مع والدها طويلاً ، وهبط الشيخ إلى الزورق وسلم على مراد وأخذ يحادثه بإنجليزية مكسرة الحروف ..
ثم تركه وهو يقول :
ــ سنبحث لك عن مكان تقضى فيه الليل .. لأن ذهابك الآن إلى فندقك أصبح متعذرًا ..
وشكر " مراد " الشيخ بحرارة .. وجلس فى الزورق يرقب ما حوله وقد سرحت به الخواطر .. وامتلأ رأسه بالأفكار .. وعجب لتصاريف الحياة .. مجرد نزهة مع فتاة عاملة على زورق .. ككل فتاة رآها من قبل تعمل فى القطار .. أو فى الباخرة .. أو فى الطائرة .. مجرد نزهة تكشف له عن هذه المأساة ..
إن الفتاة لم تنس قط فعلتها رغم أنها حاولت مرارًا أن تنساها بكل وسيلة ممكنة ، وما الذى فعلته لتنسى ما الذى فعلته ..؟ ما الذى فعلته .. لقد .. لقد .. لا .. لا ..
* * *
استطاعت الفتاة بلباقتها .. وكياستها أن تخلى له الكوخ الخاص بهم .. وتذهب هى ووالدها الشيخ وطفلها إلى جيران من أقربائهم يقضون فيه هذه الليلة ..
* * *
وجلس على فراش من الحرير .. والغرفة مزينة بستر حريرية ومفارش جميلة على المناضد .. ورسوم مطرزة على الحيطان .. والكل بلون واحد ..
وجلسوا معه يسامرونه .. وظل الطفل صاحيًا .. كفارس كما وصفته أمه .. ثم حملته أمه إلى جيرانهم .. وعادت تعد مائدة العشاء ..
وأكل مراد .. بالعصوين .. وكان قد أتقن الأكل بهما فى الصين ، وضحكت الفتاة ووالدها .. لبراعته فى استعمالهما .. وشرب معها النبيذ .. وتحدثوا فى كل شىء .. تحدثوا عن الحروب .. وتحدثوا عن هونج كونج التى سقطت فى يد اليابانيين فى ثلاثة أيام .. ثم استرجعها الإنجليز .. وعادت الدائرة تدور .. وظل الإنجليز فى قصورهم على الشاطئ .. وهم يعيشون ويموتون فى الماء ..
وسأل مراد الشيخ :
ــ أصبحت هذه الحياة سهلة عليكم كما أعتقد وأتقنتموها ..
ــ اعتدنا على هذه الحياة .. وألفناها .. ولم نفكر فى التغيير والعادة حكمها رهيب .. ولم نعد نحس بالهوان ..
ــ من يهن يسهل الهوان عليه ..
ــ ماذا تقول ..؟
ــ هذا شطر بيت من الشعر لأكبر شعرائنا العرب .. ومن الصعب ترجمته بألفاظه لبلاغته .. وسأشرح لك معناه ..
ــ معناه حكمة أزلية .. لقد اعتدنا على العيش فى الماء .. ولم نطلب التغيير ولم نسع إليه .. فبقينا كما كنا ..!
ــ ولماذا لا تخلصكم الصين الأم من احتلال الإنجليز .. ؟
ــ تستطيع الصين الأم أن تفعل هذا .. ولكنها لا تفكر فيه .. لأن هونج كونج هى المنفذ المتدفق لبضائعها .. والذاهب منها إلى كل مكان .. لماذا الحرب والدمار ..؟ وربما وصلنا إلى القنبلة النيترون ونحن لا ندرى .. لماذا كل هذا ونحن نتحرك فى سلام وأمن .. والصينى فى هونج كونج يعمل كالنحلة فى كل الحرف ويتقن فى كل صناعة .. والبلد لحرية التجارة فى رخاء مذهل .. وتفتح ذراعيها لكل سائح ..
وقالت الفتاة بنعومة لوالدها :
ــ السيد " مراد " يريد أن يستريح الآن يا والدى .. ولا يجب الحديث عن الحرب والسياسة .. فهيا .. ليأخذ حظه من النوم ..
* * *
وحياة الشيخ وخرج مع ابنته .. بعد أن أغلقت الفتاة وراءها الباب ..
ولكن مراد لم ينم .. رغم شعوره بالدفء والسكون .. ظل ساهرًا يفكر فى هذه الفتاة .. ظل ساهرًا يفكر فى " ليانج شان " التى عرف اسمها أخيرًا .. ظل يفكر فى كرمها مع فقرها .. فقد أعدت له بيتها الصغير .. تركت له الكوخ .. وذهبت إلى الجيران .. ولولا التقاليد والعادات المتأصلة فيهم .. لضموه إلى أحضانهم .. وناموا معه وهو الغريب تحت سقف واحد ..
لماذا بقى فى هونج كونج كل هذه الأيام .. لأنها فتحت له ذراعيها وهو يهبط من الطائرة .. وخرج من المطار بعد دقيقة .. لم يشعر بأى قيد .. شعر بالحرية التى يحبها كل إنسان .. حتى الإنجليزية المكلفة بالاطلاع على ورقة التطعيم الدولية .. استقبلته بابتسامة ومرح .. كأنها تعرفه من قبل وكأنها تحبه .. ترك الجميلة .. وخرج إلى الشارع .. فوجد الجمال والنظام والعمل .. والعمل بجنون .. وهذه هى الأشياء التى يحبها .. وجد حركة المرور كلها تقف للأطفال الصغار عندما يعبرون الطريق .. هذه هى الحضارة .. حضارة الصين العظيمة منذ آلاف السنين .. برزت .. من وراء القرون ..
* * *
أى خبل لماذا لا ينام .. ؟ هل يترك عمله ويبقى فى هذه المدينة لأنه يحبها .. ولأن فيها فتاة أحبها .. أى جنون .. كيف يترك وطنه الذى رعاه وأطعمه وسقاه وشرب من مائه وتغذى من طينه ..؟ كيف يتركه .. أبدًا .. أبدًا سيعود إليه .. سيعود .. وسينام .. وفى رأسه الحب والجمال .. والسلام .. قنبلة النيترون .. لا .. هيروشيما أخرى لا .. إرهاب .. لا اختطاف طائرات .. لا .. ماذا جرى للشباب فى هذا العصر .. عصابات المافيا .. مارلون براندو .. أعظم الممثلين فى هذا العصر .. المافيا .. لا .. ولكنه مثل أعظم أدواره .. وهل بقيت المافيا بعد التمثيل أم ذهبت .. ؟ لا يدرى .. هل سكر من النبيذ وأصبح يخرف ..
أين ذهبت " ليانج شان " وتركته وحده .. فى الليل والبرد .. والظلام ..
* * *
وقبل أن ينبلج الصبح شعر بأنفاسها .. ورضاب شفتيها على شفتيه .. وشدها إليه .. وشعر بأنه يغوص فى ظلام هذا الوجود الذى لا يعرف ولا يدرك معناه .. ولا يدرى لماذا وجد فيه ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 28/12/1981 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق