حَبات من الزمرد
قصة محمود البدوى
فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..
وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..
وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..
وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..
وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..
وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..
وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..
وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..
وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..
وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..
وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..
ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..
وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..
وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..
ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..
وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..
وسألتنى فى رقة :
ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
فقلت لها :
ــ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
ــ هل تعتقد هذا .. ؟
ــ إنها الحقيقة .. !
ــ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
ــ هواية ممتعة ..
ــ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
ــ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
ــ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!
ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..
وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..
ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..
وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه « الجراب » .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..
وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..
وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..
وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..
ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..
وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..
وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..
ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
ــ إنها زمرد خالص ..
ــ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
ــ خمس حبات فقط ..
ــ وبكم الخمس .. ؟
وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
ــ بمائة دولار ..
ــ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
ــ نعم ..
ــ أليس هذا كثيرا .. ؟
ــ هذا هو سعر السوق ..
ــ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
ــ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
ــ لا فائدة .. ؟
ــ آسف هذا آخر سعر ..
ــ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
ــ أشتريها بألفين من الدولارات ..
ــ فقط .. ؟
ــ فقط ..
ــ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
ــ كما تشاء ..
وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..
وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..
وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..
فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..
ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..
وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..
ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..
وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
ــ التدخين ممنوع ..
ــ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
ــ تفضل ..
وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..
واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..
وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..
وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..
وقالت بسرعة :
ــ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
ــ أنا طوع أمرك ..
ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
فسألتها بدافع من الفضول :
ــ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
ــ لا .. لقد سرق منى ..
ــ سرق .. ؟!
ــ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
ــ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
ــ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..
واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..
وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
ــ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
ــ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
ــ أجل ذهبت إليه مرة ..
ــ وأسعاره معقولة ..
ــ إلى حد كبير ..
ــ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..
وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..
واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..
ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..
وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..
ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..
وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..
وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..
وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..
وقلت للفتاة :
ــ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..
فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..
وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..
وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..
ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..
وسألتها :
ــ أهذه بنتك ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين أبوها .. ؟
ــ مات منذ ست سنوات ..
ــ هنا .. ؟
ــ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..
وسألتها :
ــ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
ــ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
ــ وتربحين من عملك هذا ..؟
ــ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
ــ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
ــ إننى سائح .. ؟
ــ ما هو اسمك .. ؟
ــ إبراهيم ..
ــ وحيدا .. ؟
ــ نعم ..
ــ أو ليس معك زوجتك .. ؟
ــ لم أتزوج بعد ..
ــ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
ــ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
ــ ألا تعرف أحدا .. ؟
ــ كلا .. هلا ترافقيننى ..
ــ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
ــ يحزننى ذلك ..
ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..
وسألتها :
ــ ما اسمك .. ؟
ــ ... ..
ــ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
ــ أتعرف ..؟
ــ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..
وأمسكت بالمجداف ..
واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..
وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..
وسألتنى فى عذوبة :
ــ أتعبت ..؟
ــ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..
وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
ــ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
ــ فى « ابردين » .. من هى ..؟
ــ أنت ..!
ونكست رأسها واحمر وجهها ..
وأضفت مستطردا :
ــ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
ــ أنا لم أسأل ..
ــ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..
واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
ــ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
ــ لا لا .. ما قلته لسواك قط ..
ومسحت على ذراعى ..
ــ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
والتصقت بى ..
فقلت هامسا ..
ــ الفتاة تنظر إلينا ..
ــ إنها عمياء ..
وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..
ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..
ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..
وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..
وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..
=================================
نشرت القصة بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " مساء الخميس " سنة 1966 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
=====
قصة محمود البدوى
فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..
وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..
وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..
وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..
وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..
وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..
وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..
وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..
وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..
وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..
وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..
ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..
وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..
وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..
ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..
وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..
وسألتنى فى رقة :
ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
فقلت لها :
ــ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
ــ هل تعتقد هذا .. ؟
ــ إنها الحقيقة .. !
ــ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
ــ هواية ممتعة ..
ــ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
ــ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
ــ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!
ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..
وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..
ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..
وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه « الجراب » .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..
وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..
وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..
وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..
ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..
وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..
وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..
ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
ــ إنها زمرد خالص ..
ــ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
ــ خمس حبات فقط ..
ــ وبكم الخمس .. ؟
وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
ــ بمائة دولار ..
ــ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
ــ نعم ..
ــ أليس هذا كثيرا .. ؟
ــ هذا هو سعر السوق ..
ــ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
ــ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
ــ لا فائدة .. ؟
ــ آسف هذا آخر سعر ..
ــ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
ــ أشتريها بألفين من الدولارات ..
ــ فقط .. ؟
ــ فقط ..
ــ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
ــ كما تشاء ..
وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..
وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..
وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..
فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..
ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..
وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..
ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..
وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
ــ التدخين ممنوع ..
ــ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
ــ تفضل ..
وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..
واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..
وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..
وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..
وقالت بسرعة :
ــ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
ــ أنا طوع أمرك ..
ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
فسألتها بدافع من الفضول :
ــ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
ــ لا .. لقد سرق منى ..
ــ سرق .. ؟!
ــ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
ــ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
ــ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..
واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..
وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
ــ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
ــ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
ــ أجل ذهبت إليه مرة ..
ــ وأسعاره معقولة ..
ــ إلى حد كبير ..
ــ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..
وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..
واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..
ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..
وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..
ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..
وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..
وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..
وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..
وقلت للفتاة :
ــ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..
فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..
وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..
وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..
ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..
وسألتها :
ــ أهذه بنتك ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين أبوها .. ؟
ــ مات منذ ست سنوات ..
ــ هنا .. ؟
ــ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..
وسألتها :
ــ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
ــ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
ــ وتربحين من عملك هذا ..؟
ــ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
ــ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
ــ إننى سائح .. ؟
ــ ما هو اسمك .. ؟
ــ إبراهيم ..
ــ وحيدا .. ؟
ــ نعم ..
ــ أو ليس معك زوجتك .. ؟
ــ لم أتزوج بعد ..
ــ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
ــ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
ــ ألا تعرف أحدا .. ؟
ــ كلا .. هلا ترافقيننى ..
ــ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
ــ يحزننى ذلك ..
ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..
وسألتها :
ــ ما اسمك .. ؟
ــ ... ..
ــ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
ــ أتعرف ..؟
ــ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..
وأمسكت بالمجداف ..
واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..
وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..
وسألتنى فى عذوبة :
ــ أتعبت ..؟
ــ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..
وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
ــ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
ــ فى « ابردين » .. من هى ..؟
ــ أنت ..!
ونكست رأسها واحمر وجهها ..
وأضفت مستطردا :
ــ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
ــ أنا لم أسأل ..
ــ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..
واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
ــ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
ــ لا لا .. ما قلته لسواك قط ..
ومسحت على ذراعى ..
ــ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
والتصقت بى ..
فقلت هامسا ..
ــ الفتاة تنظر إلينا ..
ــ إنها عمياء ..
وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..
ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..
ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..
وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..
وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..
=================================
نشرت القصة بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " مساء الخميس " سنة 1966 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================
=====
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق