هبطت الطائرة فى مطار " كاى تاك " بمدينة هونج كونج والصبح يتنفس وكان المطار مزدحما للغاية بالركاب ، لأن الطائرات جميعها تتوقف فى الليل وتعمل بالنهار بسبب وجود الجبال .
وخرجت منشرح الصدر نشطا لحسن الاستقبال الذى لقيته فى كل مكان .. فى الجوازات والاجراءات الصحية حتى نسيت مرض القلب .
واستقبلنى على الباب حشد من فتيان الفنادق ومكاتب السياحة والمحلات يوزعون البطاقات على القادمين . وتناولت كل ما تقدم لى منها ووضعته فى جيبى .
ورأيت قبل أن أخرج إلى المدينة أن أجلس أولا فى الكافتريا " ملهى المطار " واختار من هذه البطاقات الفندق الذى سأنزل فيه .
وكان المقهى مزدحما بالمسافرين والقادمين كالعادة فى مثل هذه الساعة من الصباح ، ويصبح من المألوف أن يشاركك مسافر فى مائدتك الصغيرة يحتسى القهوة أو الشاى ، وينهض سريعا ليلحق بطائرته أو يخرج إلى المدينة .
واخترت مائدة قريبة من الباب وبجانبى حقيبة اليد الصغيرة ، وحقيبة الملابس الوحيدة ، وطلبت قهوة وفطيرة وأخذت اتطلع إلى البطاقات ، ورأيت أن أصرف النظر هذه المرة عن فنادق " كولون " لأنى نزلت فيها فى مرات سابقة ، وأن أغير المنظر والمكان وأختار فندقا فى هونج كونج ذاتها لأستريح من حركة الانتقال بالباخرة كل صباح من كولون إلى هونج كونج ، ولأعيش فى قلب المدينة العجيبة بكل مشاعرى ، واكتشف أسرارها ما استطعت فى مدى الأيام القليلة التى سأمكثها .
واخترت الفندق بالفعل من بطاقة من هذه البطاقات بعد تمعن فى الاسم والسعر المحدد للغرفة وكان فى شارع " دى فو ".
ولما رفعت رأسى عن البطاقة الفيت " الكافتريا " قد امتلأت عن آخرها ، وأصبح يجلس بجانبى وحولى أناس من كل الأجناس ومعهم حقائبهم مثلى موضوعة على الأرض بجانب الموائد ، ومنهم من انشغل بكتابة البطاقات التذكارية ، أو وقف يصور منظر الطبيعة من الشرفة الخارجية حيثما تدور .
****
وخرجت من الكافتريا ممسكا كل حقيبة بيد ، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها على المدينة والجو نديا لطيفا والصيف كله يتقلص وكنا فى نهاية أيامه .
ووجدت فى الطريق تاكسيا من التى تستعمل لنفر واحد ، فاستوقفته وقلت للسائق قبل أن أركب ..
ـ ليس معى دولارات هونج كونجى وسأعطيك دولارا أمريكيا واحدا لتوصلنى إلى مرسى الباخرة .
وكنت أعرف المسافة وأقدرها ..
فرد السائق فى لطف :
ـ تفضل .. والدولار الأمريكى يكفى وأكثر مما سيحصيه العداد .
وركبت وكان يسير فى سرعة .. والمدينة أخذت تتنفس وتتحرك بكل مرافقها والمارة يسرعون إلى عملهم فى خفة عجيبة .. وسألته فى موقف الإشارات بعد أن شاهدت صورة لمسز تاتشر فى صحيفة جنوب الصين .
ـ المسز تاتشر هنا ..؟
ـ كانت هنا .. وسافرت .. رجعت إلى بلادها ..
قال هذا دون أن يلتفت إلى ناحيتى
ـ وسترجعون إلى الصين الأم بعد 15 سنة ؟
ـ فى هذا الخير .. ومن الصينى الذى يرضى بالاستعمار ؟
ـ ألا تخاف من تغير النظام ؟
ـ المهم أن تبقى لى عربتى هذه ، وعندما يكون الحكم عادلا وفى صرامة وحزم ، فإنه يرضى كل إنسان .
وابتسم وتلفت وبدت سنته الذهبية تلمع من خلال أسنانه الصفراء من فعل التبغ .
وكان فى بداية الشيخوخة ولكنه ما زال قويا حاد البصر متمالكا لأعصابه وجسمه ، وهو جالس لا يدل جسمه على طول ولا سمنة .
وقلت فى نفسى وهو يشق طريقه فى قلب " كولون " وعيناى إلى العمارات والمتاجر وحركة الناس فى الطريق .
ستظل هونج كونج هى هونج كونج سواء انضمت إلى الصين الأم أم ظلت مسلوخة عنها ، لقد أخذت طابع المدينة الفريدة .. إن أناسها أصبحوا من تكوين آخر وطينة أخرى .. حب المنافسة ، وفى ظهرهم اليابان بكل ثقلها فى الصناعة وتقدم العلم والحركة السريعة والنظام الدقيق جعلهم فى وضع آخر .. ثم حرية الانطلاق خلقت منهم جبابرة فى هذه الميناء ، أنظر إلى البضائع ، أنظر إلى الصناعات الصغيرة التى فى طريقها إلى التطور السريع لتصبح ثقيلة كما تصنع اليابان .. أنظر إلى حركة الناس فى الشوارع ، ولهفتهم على العمل وتقليد الأشياء أولا ثم اختراع الجديد .
هذا كله مبهج ومريح للقلب .. ونسيت تعبى ..
وسألنى السائق :
ـ اخترت الفندق ..؟
ـ نعم ..
وبلغنا كوبرى الباخرة وأخرجت له الدولار ، وشكرنى وتحرك بسيارته . ثم وجدته يتوقف وينادى بالإنجليزية ، ونزل من سيارته وقدم نحوى سريعا قبل أن أهبط من الكوبرى إلى الباخرة .
وقال وهو يلهث :
ـ هل هذا دولار ؟
ـ نعم ..
ـ انه عشرة دولارات ، فحاذر إن الدولار من حجم العشرة فى العملة الأمريكية ، فحاذر من هذا الخطأ وإلا سيفرغ جيبك فى يوم واحد !!
ونظرت إلى الرجل الفقير فى اكبار .. إنسان لا تربطنى به معرفة ولا صلة ، أكثر من صلة راكب غريب بسائق سيارة أجرة ، رجل فقير ..يخاف أن ينضم موطنه إلى الصين فتؤخذ منه عربته الصغيرة المهالكة التى يعيش منها وتصبح من عربات الدولة .
رجل يفعل هذا ، وفى حيطان الميناء وفى الكوبرى وفى البواخر وفى المحطات ، لافتات تحذر من النشالين ، لافتات فى كل مكان بحروف بارزة كبيرة بالإنجليزية .
إن كل ما يحرص عليه هذا السائق هو كيانه الصغير وأسرته ، إن كانت له أسرة ، لو كان هذا الرجل طامعا فى المال لطوى الورقة كما يطويها غيره من لصوص المال ، ومن الذين لايتورعون فى سبيل الحصول على المال من فعل كل شىء وارتكاب كل ذنب من السرقة والقتل والنهب والخداع واستضعاف الضعيف وزيف الحقائق والتمويه على الناس .
كم أذل المال قوما كانوا كبارا فى نظر الناس وشامخين فطوى صفحتهم فى لحظات ، ومرغهم فى الوحل ، وطمس رؤوسهم فى التراب .
ودارت كل هذه الخواطر فى رأسى والباخرة تتحرك إلى هونج كونج وصورة الرجل الفقير مرفوعة فوق رأسى .. وبجانبها اللافتات بالخط العريض .. حذار من النشالين .
هل هو تمويه من الإستعمار الإنجليزى .. لتشويه وجه المواطن الصينى فى هونج كونج أم هو حقيقه ؟ الواقع أنه حقيقه إلى حد ما ، ففى هونج كونج رقيق أبيض ودعارة ، ونشالون لا يشق لهم غبار ، وأصحاب حيل لا نظير لمثلهم فى العالم .
ولكن فى هونج كونج بجانب الصينيين ، غرباء استوطنوا فيها من كل الأجناس فى الأرض .. من الإنجليز والأمريكان والهنود ثم قوم من اليمن والباكستان وغرب أوربا وشرقها .
فلا مانع من التحذير من النشالين الخفاف والثقال عند كل تجمع وحشد ، لا مانع أبدا ، وذلك أول واجبات البوليس فى المدينة .
****
وخرجت من الميناء إلى الفندق فى عربة ركشا واخترت غرفة فى الطابق الخامس .
ولم يستغرق الانتقال من المطار إلى الفندق إلا القليل من الوقت ، ولهذا لم أشعر بأى تعب فى القلب ، ولشوقى إلى المدينة قررت النـزول اليها بعد أن احلق ذقنى وآخذ حماما سريعا .
وتناولت حقيبة اليد لأخرج منها أشياء صغيرة كأدوات الحلاقة وزجاجة الكولونيا .
ولما فتحت الحقيبة حدقت فيها مشدوها وجدت أنها ليست حقيبتى ، وبها أشياء قليلة لا تخصنى ولا تمت لى بأية صلة ولا شىء فيها يدل على صاحبها .
وكان حجم الحقيبة وطولها وعرضها ولونها مثل حقيبتى تماما .. وهى ليست من حقائب اليد التى توزعها شركات الطيران على مسافريها وعليها اسمها كإعلان ، لا إنها ليست من هذا الصنف من الحقائب .. وإنما هى حقيبة يد من التى تباع فى كل الأسواق الأوربية بنية غامقة بقفل واحد يفتح ويغلق اتوماتيكيا بضغط خفيف من جانب .
وكنت قد اشتريت واحدة من هذا الصنف وأصبحت احملها فى كل رحلة لأنها سهلة الاستعمال وخفيفة ، ولا يسع باطنها إلا أقل الأشياء ..
وبمجرد علمى أن الحقيبة ليست حقيبتى اعترتنى رجفة .. وازدادت الرجفة إلى هلع زلزل أعصابى .. وأوجع قلبى ، ولما وجدت فى الحقيبة كيسا جلديا محشوا بالدولارات .. وكل انسان يفرح لمنظر الدولارات وهو فى رحلة .. ولكن منظرها أفزعنى .. وجعلنى ارتعش .. وأخرجتها من الكيس وكانت ضخمة كبيرة وظاهرة للعيان .. ولم يشأ صاحبها أن يخفيها بأية وسيلة من وسائل الاخفاء وحيله .. كأن يطويها فى الأوراق أو يضعها فى محفظة كبيرة مع أشياء أخرى ، لم يفعل هذا .. بل تركها ظاهرة بمجرد أول نظرة ولمسه ..
كانت صورة لنكولن تسر الناظر .. الفلاح العصامى المتفرد فى الطباع والقريب جدا ، والذى يحمل صفات أعظم رجالنا .. بعد النبى .. عمر ابن الخطاب .. والقياس مع الفارق ..فعمر كان أعظم لاعتبارات كثيرة .. ولكن فى العدل والنظام وصرامة الحكم وبساطة العيش ، والاغتيال من يدى أفاقين اشتركا ، واشتركا بما يذهل أمام التاريخ ، لنكولن الفلاح العصامى محرر العبيد برزت صورته فى نفسى كما برزت فى الدولارات الأمريكية ولم تبرز بعده صورة ، ولكنى كمصرى استرجعت صورة " أيزنهاور " الذى أعطى لليهود فى اسرائيل لطمة قاسية بعد عدوان 1956 ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .
***
نظرت إلى الدولارات طويلا ولم افكر فى عدها ثم أعدتها إلى مكانها من الكيس الجلدى وذهنى يشتغل بسرعة ، ولكن يجب علىّ ألا أتصرف بغباء وتهور ، فهذه الدولارات مطمع للكثيرين فيجب أن أتحقق أولا بعد كل خطوة وأتحقق بحذر وتأن لأنها أمانة وضعها القدر فى عنقى .
حقيبة اليد هذه حملها عامل المصعد فى الفندق مع حقيبتى الأخرى كما حملتها أنا من الكافتريا فى المطار إلى التاكسى ثم إلى الباخرة ، فهل أخطأ عامل المصعد وحمل حقيبة نازل من نـزلاء الفندق بدل حقيبتى لتصادف وجود حقائب كثيرة فى الفندق وأنا داخل ..؟
أم أن الخطأ من جانبى فى الكافتريا ، فقد حملت حقيبة مسافر آخر بدل حقيبتى وأنا لا أدرى لما بين الحقيبتين من تشابه كبير وتطابق تام فى اللون والحجم .
إن كان الخطأ قد حدث فى الفندق .. فسيكون السؤال من جانبهم وسيأتى العامل ويتدارك الخطأ ، أما أنا فلا أحدثهم بشىء ، لأنى لم أختبر الفندق بعد ولا أعرف مقدار ما هم فيه من أمانة .
ولما لم يسألنى أحد .. تناولت الحقيبة بيدى .. ونزلت إلى بهو الفندق .. وتحادثت مع الشاب العامل فى الاستقبال وأنا أقول لنفسى إن كان هناك خطأ فسيذكره منظر الحقيبة فى يدى بكل أمر ..
ولكنه لم يحدثنى عن شىء متعلق بالحقيبة ، ولما عرف أنى خارج للتسوق ، دلنى على متجرين فى شارع " جلوستر رود " وأدركت بعد هذا أن الخطأ حدث فى الكافتريا .. فأسرعت اليها .. وفى ذهنى خاطر أن الذى حمل حقيبتى لابد أنه أدرك الخطأ مثلى ورجع إلى الكافتريا كما رجعت .
***
وفى الكافتريا دخلت وأنا أظهر الحقيبة لكل العيون وجلست إلى نفس المنضدة ، وطلبت زجاجة عصير ، وكانت الحقيبة بجانبى فرأيت أن أضعها على المنضدة لتظهر أكثر ويراها الجرسون إن كان قد سأله أحد عنها من قبل.
وطال جلوسى ، ولم يأت أحد ، ولم يسألنى شخص ، ورأيت أن من حسن التصرف والصواب ألا أتقدم وأكشف الأمـر فمن الذى يرفض أخذ دولارات هبطت عليه من السماء .
ولما يئست وأحسست بالتعب ووجع القلب ، تغير شعورى من الحرص عليها ، إلى تركها للمقادير لأنها عذبتنى ، ورأيت أن أنهض وأترك الحقيبة فى مكانها ، وتسللت إلى الخارج بعد أن تركتها على المنضدة .
ولكنى قبل أن أركب التاكسى وجدت جرسون الكافتريا يسرع ورائى وبيده الحقيبة .
وشكرته وأنا فى حالة غيظ ، ولكنى ناولته دولارا هونج كونجى لأمانته .
***
وعدت إلى مدينة هونج كونج ، والمدينة العجيبة قد فتحت كل أبوابها ، شوارعها الطويلة الضيقة تموج بالناس .. من كل الأجناس .. ذاهبين وراجعين ومتطلعين إلى اللافتات الكبيرة والصغيرة التى تغطى كل الحوانيت بالأحرف الكبيرة البارزة وباللغة الصينبة فى الأعم والإنجليزية فى القليل .. حروف ضخمة تسد عليك الطريق والعيون زائغة من كثرة البضائع المعروضة ورخص أثمانها وتنوع أشكالها .. إن كل صناعات الدنيا تصب هنا بجانب صناعتهم .. إنهم لا يضعون قيودا على شىء يصنعه أى إنسان .
كان الترام من الطابقين يتحرك أمامى فى الشارع كما كانت عربة الركشا .. وكانت السيارات .. ولكنى لم أركب أيا منها ومشيت على رجلى شبه حالم ، ونسيت تعبى ، ونسيت حقيبة اليد بيدى اليمنى ، نسيتها وأنا أغوص فى قلب المدينة حتى وصلت إلى المطاعم الصغيرة فى صف واحد التى تبيع الكرشة التى يسبح فيها لحم البقر !!
واشتاقت نفسى إلى أكلة صينية ! وإلى الذهاب الى سوق الخضار الكبير الذى يفرغ من كل ما فيه فى الليل ، ويغسل أرضه وسمائه بالماء المغلى والصابون ويعقم ويطهر !!
وإلى الذهاب إلى حديقة النمر وركوب عربة الركشا والتنـزه فى الغابة وإلى التوجه إلى الميناء ومشاهدة السفن العملاقة وهى تفرغ شحناتها من البضائع وحولها الرافعات تدور وتجلجل .
كما اشتاقت نفسى إلى دخول السينما فى حفلات النهار بعد أن شاهدت فى الشارع صور جارى كوبر وجون واين ولى ملفن العباقرة وعلى رأسهم كوبر الذين ذهبوا ولم يخلفهم أحد .
كما تقت إلى التجول فى أرجاء المحلات الكبيرة التى اشتهرت بها هونج كونج وإلى دخول المكتبات واستعراض صفوف الكتب .
وتذكرت أن من المحتم علىّ أن افعل كل هذا قبل سفرى فى نهاية الأسبوع إلى بكين ، ويجب أن أسير على جدول ينظم أيامى المقبلة وقبل كل شىء أن أرجع الآن حقيبة اليد إلى الفندق .
***
وتركت الحقيبة فى الفندق وخرجت أتجول فى المدينة ، زرت كل الأمكنة التى أحبها .
وتغديت وبعد الغداء نمت أكثر من ساعة لأريح أعصابى وقلبى .. وخرجت فى الليل إلى المدينة التى تتلألأ بكل الأنوار .. الأنوار البنفسجية والفسفورية وألوان الزمرد والياقوت ، وبريق اللؤلؤ وشعاع الماس .
كل شىء يتحرك فى أمواج وأمواج .
ودخلت حى " منشاى " حى الملاهى والمسارح ، وسرت فيه بكل طوله وعرضه .
وفجأة برزت أمامى لافتة ضخمة عن عراف من العرافين ، وكانت اللافتة بحروف كبيرة وعليها رسومات ، بلورة كبيرة تكشف الغيب !! ومضيئة بالأنوار القوية وتشير إلى مدخل ضيق يفضى إلى صاحبها .
ودخلت فى ضرب لا نهاية لطوله ، على جوانبه الحوانيت الصغيرة التى تبيع اللؤلؤ .. وتماثيل الخزف والنحاس لبوذا .. والعقود وقناديل الزيت والصور والرسوم لكبار الرسامين والمصورين ، والقداحات .. والأقلام .. والمحابر .. وعقود الماس ، شاهدت كل هذا وأنا أتحرك فى بطء وهلع إلى العراف وكان بابه فى نهاية الدرب .. وعلى الباب حصيرة من عقود الخزف والزجاج تتموج بالكهرباء ، ولا حس ولا صوت .
وحركت الحصيرة ودخلت ، وطالعنى ما يشبه الجب ووجه رجل سمين ضليع حاد النظرات ، تربع على حشية حمراء قامت على كرسى مضلع من الأبنوس المطعم بأصداف البحر ، ولا سند له ، وأمامه بلورة كبيرة مستطيلة مستقيمة الزوايا كشاشة التليفزيون تتلون بكل الوان قوس قزح ولكنها ثابتة.
وعن يساره شىء لم أشاهده وأنا داخل لقلة الضوء وتعمد خفوته ليضفى جو الرهبة على المكان ، ويتكامل الموقف ، عن يساره فتاة جميلة فى عمر الزهور من أنضر وأجمل وجوه الصينيات ، بضمة وشرطة فى العين ، وارتخــاء فى الجفن وبسمة على الشفاة تذيب القلوب الصلدة .
لعلها سكرتيرته أو مترجمته فهو لايتحدث إلا الصينية عن عمد أو تظاهر.
وقلت للفتاة بالإنجليزية عن غرضى من الزيارة .. ولكن على صورة أخرى .. قلت لها إن حقيبة يدى سرقت فى صباح اليوم وأريد أن أعرف السارق والمكان الذى سرقت فيه .
قالت برقة :
_ـ عشرون دولارا .. واسترح كما أنت ..
فأخرجت عشرين دولارا هونج كونجى .. وجلست على كرسى أمام المرآة كما أشارت لى وقلبى ينبض .. وكل جوارحى تنتفض .. فقد خيل إلى أن كل شىء يدور فى الجب مع انقطاع النور وتسلط العتمة ..
وسمعت صوت العراف الأجش يقول ما يشبه التعاويذ بالصينية ، ويترنم بنغم كرنين الأجراس .. ثم خفت وانقطع صوته .. وخيم سكون الموت ..
وسمعـــت صـوت الفتاة .. فتنبهت وأخذت أنظر إلى المرآة ..
وظهرت الكافتريا فى المطار .. ومن كان فيها من المسافرين كما رأيتهم فى الصباح .. ظهروا فى حجم صغير ولكن ملامحهم وسحنهم واضحة .. وظهرت مائدتى ومن كان حولى ..
ثم ظهر شخص طويل ببدلة كحلية ، كان جالسا إلى جانبى ومعه سيدة وطفل .. ونهض وتناول حقيبتى .. بدل حقيبته وأسرع إلى الباب .
وصرخت .. وأضيئت الأنوار .. وسمعت ضحكة الفتاة وسألتنى :
ـ لا ترع .. هل عرفته ؟
ـ وكيف أعرف .. والرجل كسمكة فى بحر ..؟
ـ ولكنه من ركاب طائرتك ..
ـ أبدا ما أحسبه منهم ..
ـ ستعرفه .. وتهتدى اليه .. إذا أبلغت البوليس بأوصافه كما شاهدتها ..
ـ هذا ظنك ..؟
ـ أجل ..!
وكان العراف يحدق فى وجهى وعلى فمه ابتسامة .. ودهاء .. لقد انتصر.. وكشف الأسرار .
لكنى كنت فى حالة ذهول .. هل هى لعبة شيطانية .. والرجل فى إمكانه عرض صورة للمطار وهو يعرف أنى كنت على سفر .. ولكن الحركة هناك .. ونفس سحنة الشخص المجاور لمائدتى هذا كله أذهلنى .. ولم أستطع تحمل الصدمة وأنا أحمل علة القلب .. وأخذنى ما يشبه الدوار وظللت فى مكانى وأدركت الفتاة حالى عندما رأت العرق يتفصد من جبهتى .
وتناولت الفتاة ذراعى ، وأراحتنى على حشية فى غرفة مجاورة ..
ورأيت أن من قلة الذوق أن أشغل المكان .. فتحاملت على نفسى وهبطت إلى الشارع .. وأنوار المدينة تتلألأ .. وتحاشيت الجموع ما أمكن .
وفى شارع " كونات رود " وجدت ملهى فدخلته وطلبت زجاجة من الأستاوت .. وأراحتنى بعض الشىء ، وجاءت فتاة وجلست بجانبى فعاملتها بلطف .. وأدركت هى عدم رغبتى فى مجالستها فنهضت ، وتركتنى وحدى .
وكانت الموسيقى الصينية هادئة تريح النفس والأعصاب .. والأنوار خافتة .. وشاهدت رقصات صينية جميلة .. وبعد الرقص جاءت العاب بهلوانية ، فغادرت الملهى إلى الفندق وأنا أشعر بالتعب وألم القلب ..!!
وسقطت وأنا أخرج من المصعد فى الجناح الذى به غرفتى .
ولما فتحت عينى وجدت نفسى على سريرى وبجانبى سيدة .. وأنا أعرف أن الصينيين بطبعهم الشرقى لا يشغلون الفتيات بالليل فى الفنادق .
وكان الطبيب الذى جاءوا به بعد سقوطى لا يزال فى الغرفة ، وحيانى بلطف وقال :
ـ لاتشغل نفسك ، أزمة خفيفة ومرت بسلام والفضل لصاحب الفندق الذى استدعانى على الفور .. ولهذه السيدة الكريمة جارتك .. التى كانت أول من شاهدك فى لحظة الإعياء .
وأشار إلى سيدة تقف بجانبه وكانت هى التى رأيتها على باب المصعد ، وحسبتها من فتيات الفندق .
وشكرتها بعينى وأنا صامت .. وحدثتها عن أجر الطبيب ورغبتى فى سداده .
فقالت برقة :
ـ الأجر سيضاف إلى حسابك فى الفندق .. وهناك ممرضة ستأتى بعد ساعة ، وتعطيك حقنة ، والأحسن أن تظل صاحيا ..!!
فقلت فى نفسى إن من يتطلع إلى جمال وجهك سيظل صاحيا إلى آخر عمره .. خشية ألا تشرب روحه من هذا الجمال .
وحدثتنى أنها فى الغرفة المجاورة لغرفتى ، وجاءت قبلى بيوم واحد لتقضى فى هونج كونج بضعة أيام بعد بانكوك .. ونيودلهى .. وأنها سويدية وتشتغل مدرسة فى لندن منذ أربع سنوات .. وكانت متـزوجة ولها بنت فى الثامنة عشرة من عمرها ، تزورها من وقت لآخر فى السويد ، والبنت فى رعاية جدها .
حدثتنى عن كل هذا بسرعة وبصراحة الأوربية من الشمال كأنى أعرفها من سنين .
ـ وقلت لها :
بنت فى الثامنة عشرة .. وأنت فى العشرين ، أليس هذا بغريب ؟
فضحكت بقلب طروب .. ونغمت :
ـ هل أنا صغيرة هكذا .. حقا ؟
ـ أجل .. ولا أحد يمكن أن يعطيك أكثر من هذه السن ..
وكان وجهها الأبيض الجميل البديع القسمات يضىء ، وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق الزمرد ، وكنت فى حالة من المرض لاتجعلنى أزيد من إطرائى ..
وجاءت لى بكل علاجات القلب التى كتبها الطبيب .. وتحركت وراحت وجاءت فى خفة بنت العشرين حقا .
ولما علمت أننى مصرى واسمى " فتحى " قالت لى أنها التقت بشاب مصرى اسمه " فتحى " وهى تدرس فى جامعة اكسفورد ، وكان يمكن أن تتزوجه .. ويتغير مسار حياتها .. لولا أن وضع القدر فى طريقها هذا الشاب المجرى الذى تزوجته بعد رحلة فى الدانوب .. وخلفت منه البنت الوحيدة .. ثم انفصلا.. ومن وقتها وهى سائحة فى كل الأجازات .
كانت ترتدى بدلة الرحلات .. بنطلونا بنيا وبلوزة صوفية داكنة وتركت شعرها المقصوص على طبيعته .. وكانت أسنانها فى بياض العاج .. لولا أثر السيجارة التى أطفأتها وهى فى حجرتى حتى لا تؤذينى ..
وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل زجاجة وهى باسمة .. وقالت :
ـ ستشرب معى ..
ـ آسف ممنوع..
ـ بحكم الدين ..؟
فأشرت إلى قلبى ..
فقالت بنغمة حبيبة :
ـ إنى أحاول أن أنسيك هذا وليس فى عينيك مرض لقلبك .. والعين لا تكذب ..
ـ ولكنى أحس به ..
ـ إنسه ..
وتناولت يدى ..
ـ إن نبضك عادى جدا ..
ـ طبيبة ..؟
ـ كنت أود إن أكون طبيبة ، وكان والدى وقتها يعمل فى لندن .. ولكن جرفتنى حرفة اللغة ، فدرست اللغات الشرقية وتخصصت ..
فقلت لها :
هذا أحسن والخير فيما جرى ..
وحدثتها عن سفرى إلى بكين ومحاضراتى فى قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين عن الحريرى والهمزانى كأعظم قاصين فى تراثنا العربى ..ولم يكن الإسمان غريبين عليها..
وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل نسخة قديمة نادرة الطبع من الف ليلة وليلة بالإنجليزبة .
فقلبت فيها معجبا .. وحدثتها عن كل ما أعرفه عن الف ليلة وليلة .. ومن استفاد منها من كتاب الغرب .. استفاد منها بوكاشيو وكتب الديكاميرون .. ثم مارجريت نافار التى كتبت الهيتاميرون .. كما استفاد منها جيته .. ولامارتين فى اسفارهما .. كل هؤلاء استفادوا من كتابنا العرب .. ولكن لقصورنا وتخلفنا أغفلنا أمجادنا .
والعربى منذ القدم وحتى العصر الجاهلى قبل الإسلام ، كان يقص ويحكى أجمل القصص وأبدع الحكايات فى رحلاته من مكان إلى مكان .. فهو أول من قص بالسليقة روائع القصص .
كما أن بديع الزمان الهمزانى أول من كتب قصة فنية قصيرة متكاملة العناصر الفنية كما يقول أساتذة الأدب وهذا ما سأتحدث عنه فى محاضرتى فى بكين .
ولاحظت هى أن حديثى عن أمجادنا من الكتاب العرب أراحتنى فحدثتنى عن كل ما عرفته منهم فى دراستها ، وعن عمقهم الفكرى وعبقريتهم .
وقلت لها :
ـ لقد كنت السبب فى سهرك وتعبك .. وأنت فى رحلة للترويح عن النفس .. ولا أدرى كيف أشكرك .. وأنا مسافر بعد أيام ، وقد لا نتقابل ولا أجد مجالا ولا فسحة للشكر ..
وحدثتها عن العراف ..
فقالت :
ـ ما الذى دعاك للذهاب اليه .. إنهم حمقى وكاذبون ..
ـ ولكنه كان ذكيا .. وبارعا ..
وحدثتها بحقيقة المسألة ..
فقالت فى تعجب :
ـ هذا غريب .. وأين الحقيبة ..
ـ إنها معى .. وهاهى ذى ..
فقلت لها مازحا :
ـ فكرت فى شىء يريحنى ..
ـ ما هو ..!
ـ نتقاسم هذه الدولارات ..
فتمايلت ورقص قلبها من كثرة الضحك ..
ـ إنها تخصك وحدك .. رزق ساقه الله اليك ..
ـ إنها لا تخصنى .. إنها تخص صاحبها .. إننى من نسل قوم كان الحاكم منهم يطفىء سراج الدولة إذا تحدث فى شئونه الخاصة ..
ـ من ..!
ـ إنه عمر بن عبد العزيز ..
ـ ولكن الدنيا تغيرت .. وتغير معها الناس ..
ـ الأمانة لا تتغير مع الزمن لأنها شىء باق .. وشرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور ..
ـ نعم ما دام الخير موجودا فالدنيا باقية .. وبالخير نقاوم كل عناصر الشر مهما كانت ضراوتها ..
وسمعت نقرا على الباب .. فقالت بدماثة :
ـ جاءت الممرضة لتعطيك الحقنة .. وسأتركك لحظات ..
وغادرت " كرستين " الغرفة والممرضة داخلة وكانت صينية فى الثلاثين من عمرها .. قصيرة ونحيفة سريعة الحركة .. وجهها الصبوح يبتسم فى وداعة ..
وغرزت الحقنة سريعا .. وطوت علبتها ، فقلت لها وقد سرنى أنها تتقن عملها :
ـ انتظرى لحظة .. أرجوك ..
فاستغربت ، وظلت واقفة .. وأخرجت لها ورقة بمائة دولار هونج كونجى من جيبى لها .
ففتحت عينها فى ذهول .. وسألت :
ـ ما هذا ..؟
ـ دولارات هونج كونجى .. أعطيها لك منحة منى ..
ـ مقابل ماذا آخذها .. إننى لم أمنحك شيئا بالمقابل .. فكيف آخذها..؟
كانت جادة فى كلامها كالسياط .. الهبتنى تماما ..
فقلت أخفف الوضع .. وأصرف عنها ما فكرت فيه ..
ـ لقد أعطيتنى حقنة الشفاء ..
فلانت ملامحها وهى تستدير لتواجهنى :
ـ الحقنة .. أخذت ثمنها من الفندق ..
ونظرت اليهــــا صامتا وهى خارجة من الغرفة ولم أعقب ..
ودخلت " كرستين " وحدثتها بما جرى .. فضحكت .. وقالت بنغمة لها معناها :
ـ هكذا الفقير .. والناس لا تعرفه ..
وقلت لها وأنا أشير إلى الحقيبة التى كانت السبب فى عذابى وتطور وجع القلب ..
ـ وما الذى سنفعله الآن بعد كل هذا ..؟
ـ سننشر عنها سطرين فى جريدة جنوب الصين وسيأتى صاحبها حتما بعد النشر ..
ـ وكيف أنتظر .. وأنا مسافر إلى بكين ..؟
ـ سترسل برقية إلى الجامعة .. وتؤجل المحاضرة إلى أيام أخرى ..
وكان فى كلامها الصواب .. وأمسكت بيدها لأشكرها .. وشعرت بالراحة .. وخف العذاب والدوران .. وإن كنت أعرف أن الأرض ستظل تدور بعنف بمن عليها ولا تحفل بمن يسقط من جوانبها ..
============================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 24و3111983 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من هونج كونج لمحمود البدوى عام2001من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================